لا تنحصر مفاعيل الخلاف المستحكم بين حزب الله والتيار الوطني الحر في طبيعة العلاقة بين الطرفين، بل تنعكس أو يُفترض أن تنعكس على الخيارات السياسية المسيحية بما يتجاوز التيار العوني.
إنّ انهيار تفاهم مار مخايل يعني سقوط السردية المسيحية التي تبنّاها التيار الوطني الحر منذ عودة ميشال عون من فرنسا في عام 2005، وهي السردية التي ارتكزت أساساً على شعار “استعادة حقوق المسيحيين في السلطة والدولة”.
كان هذا التفاهم بالنسبة إلى التيار وسيلة للوصول إلى السلطة، ولم يكن بحدّ ذاته غاية. لذلك كلّ المعاني الوطنية و”الوجودية” التي أُعطيت لهذا التفاهم كانت جوفاء فارغة من أيّ مضمون حقيقي، ما عدا أنّها شكّلت غطاءً أخلاقياً للأهداف السياسية السلطوية لكلّ من التيار العوني وحزب الله، وهي أهداف لم تكن كلّها متشابهة.
لا تنحصر مفاعيل الخلاف المستحكم بين حزب الله والتيار الوطني الحر في طبيعة العلاقة بين الطرفين، بل تنعكس أو يُفترض أن تنعكس على الخيارات السياسية المسيحية بما يتجاوز التيار العوني
لم يكن هدف الحزب إيصال التيار إلى الحكم وتعزيز مواقعه فيه، إلّا لأنّ مصلحته السياسية اقتضت ذلك في مرحلة معيّنة. ومع تبدّل الظروف الداخلية والخارجية لم يعد سعي التيار إلى الاستئثار بالحصّة المسيحية في النظام، وبالأخصّ في رئاسة الجمهورية، هو نفسه هدف الحزب الذي يبحث الآن عن خيارات سياسية ورئاسية بمعزل عن التيار في حال بقي التيار ممانعاً لخياراته.
تفاهم ظرفيّ
لم يكن حزب الله معنيّاً بـ”استعادة حقوق المسيحيين في النظام” إلّا متى كانت تخدم أجندته السياسية المحلّية والإقليمية. وهذا سببٌ كافٍ لاعتبار تفاهم مار مخايل ظرفياً ومؤقّتاً لا يعبّر عن أيّ استراتيجية وطنية لكلا طرفَيْه، بمعنى أنّ هذا التفاهم كان منذ لحظته الأولى تفاهماً سياسياً سلطوياً ولم يكن تفاهماً وطنياً يهدف إلى تصحيح الاختلالات الوطنية التي خلّفتها حقبة الوصاية السورية على لبنان، بل على العكس تماماً خلق اختلالات جديدة، وخصوصاً لجهة ضغطه الدؤوب على الحالة السنّيّة بغية إضعافها لأهداف داخلية وخارجية.
لكن في الواقع لم يعتمد الحزب استراتيجية ثابتة في تعاطيه مع المكوّنات السياسية الطائفية، بل استراتيجية متحرّكة على غرار النظام السوري، أي يستخدم هذه المكوّنات بعضها ضدّ البعض الآخر بنسب متفاوتة حسب الظرف السياسي. وإن كان يتصرّف كحليف “استراتيجي” للتيار الوطني الحر بوصفه الممثّل الأكبر للمسيحيين في النظام في مواجهة الحالة السنّيّة، غير أنّه بنى قنوات مع السنّيّة السياسية وحافظ عليها، وهذا ما تحسّس منه التيار العوني واعتبره موجّهاً ضدّه.
بيد أنّ استراتيجية الحزب الأساسية، على غرار نظام الوصاية السورية، تحرص على خلق توازنات/اختلالات بين المجموعات الطائفية داخل الحكم، بحيث لا تسمح لأيّ مجموعة ببناء قوّة ذاتية بمعزل عنه، حتى لو كانت حليفةً له. فحزب الله بعدما أضعف الحالة السنّيّة بمؤازرة التيار، عاد فأضعف التيار بعدما اشتدّ عوده، بمؤازرة أطراف سنّيّة ضعيفة تستمدّ قوّتها منه لا من حضورها على المسرح السياسي.
تعميم الضعف
إذاً نحن بتنا أمام مشهد سياسي سمته الأبرز ضعف جميع القوى السياسية الطائفية في الحكم ما عدا حزب الله الذي لا يزال الأقدر على فرض شروطه على القوى الأخرى في أيّ تسوية سياسية مقبلة وإن تراجعت قدرته على ترجمة نفوذه في اللعبة السياسية عمّا كانت عليه في السنوات الأخيرة، وتحديداً في عام 2016 لحظة انتخاب عون. وهذا يعني في المعادلة الطائفية للحكم أنّ الحزب بات صاحب النفوذ الأقوى في المؤسّسات الدستورية الثلاث المحسوب كلّ منها على واحدة من الطوائف الثلاث الكبرى، أي البرلمان وبالأخصّ رئاسته ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية. وهذا ستاتيكو يريد الحزب المحافظة عليه في أيّ تركيبة حكم جديدة إثر انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
لكنّ الأهمّ أنّ معادلة النفوذ التي يفرضها الحزب على المؤسّستين السنّية والمارونية تجيز القول بقوّة إنّ صفة التوافقية الطوائفية للنظام السياسي قد سقطت، لأنّ الحزب لا يقبل شراكة حقيقية مع المجموعات الطائفية الأخرى إلّا من موقع ضعفها، وبذلك تكون حاجتها إليه أكبر من حاجته إليها.
لم يكن هدف الحزب إيصال التيار إلى الحكم وتعزيز مواقعه فيه، إلّا لأنّ مصلحته السياسية اقتضت ذلك في مرحلة معيّنة
إذّاك تُطرح الحجّة الغربيّة، وبالتحديد الفرنسية، للحوار مع حزب الله باعتباره الممثّل السياسي الأكبر لطائفته، كما لو أنّ المشكلة هي في نقص اعتراف المجموعات الأخرى بحجم تمثيله ضمن الطائفة الشيعية، بينما الواقع هو أنّ الحزب يطوّع ويضعف ممثلي الطوائف الأخرى في النظام إلى حدّ يخلق اختلالات غير مسبوقة في التركيبة الطائفية للنظام. إذ لم يحدث أن شعرت طائفتان من الطوائف الثلاث الكبرى بغبنهما معاً كما يحصل الآن مع الطائفتين السنّية والمارونية، كلّ منهما بأشكال ووتائر مختلفة. لكن تبقى مع ذلك المشكلة المسيحية هي الأعمق والأخطر الآن.
أهرام الوهم
بنى التيار الوطني الحرّ أهراماً من الوهم عن قدرة المسيحيين العودة إلى الحكم والدولة بقوّتهم الذاتية، كما لو أنّ تحالفه مع الحزب الذي أتاح له الوصول إلى رئاسة الجمهورية هو تحالف من الندّ إلى الندّ أو بين طرفين “متساويين”. فهو أقام ربطاً بين قدرته على إقامة تحالف “ندّيّ” مع الحزب وبين قدرته على الحكم من موقع الندّ للمجموعات الطائفية الأخرى. بعبارات أخرى، لقد حاول إسقاط هذا التفاهم على معادلة الحكم بحيث إنّ ما يجوز من ندّيّة متوهَّمة في التفاهم يجوز في الحكم، وهو ما لم يقبل به الحزب الذي يدير مصالحه في النظام بطريقة مختلفة ووفق حسابات خاصة.
لقد جاء سقوط تفاهم مار مخايل ليفضح هذه الندّيّة المتخيّلة ويعرّيها. لكنّ الأهمّ أنّه عرّى حجم القوّة والحضور المسيحيَّين في النظام. إذ عدنا عمليّاً إلى ما قبل “عصر الرئيس القويّ” باعتبار أنّ المسيحيين لا يستطيعون فرض انتخاب أحد أقويائهم، والأهمّ أنّهم لا يقدرون على منع انتخاب رئيس “غير قويّ”، بينما قوّة “الثنائية الشيعية” تكمن في عدم قدرة أيّ مجموعة طائفية على منع انتخاب مرشّحها لرئاسة المجلس أكثر منها في قدرتها على فرضه.
إذا كان السُّنّة أيضاً قد أصبحوا خارج معادلة “الرؤساء الأقوياء” بعد خروج سعد الحريري من الحكم، فإنّهم ليسوا بضعف المسيحيين في النظام. وهذا أمرٌ لا يعود لأسباب داخلية وحسب، بل إنّ الأهمّ أنّ السُّنّة، على تبعثرهم وتشتّتهم، ما زالوا جزءاً من معادلة إقليمية تنعكس على حضورهم السياسي في لبنان، بينما المسيحيون يفتقرون إلى ديناميكية مماثلة.
أزمة مركّبة
في المحصّلة أصبح المسيحيون أمام واقع جديد بعد انهيار تفاهم مار مخايل، لأنّ انهياره أعاد تظهير القوّة الحقيقية للطوائف الكبرى داخل النظام، وليس أدلّ على ذلك من عقد جلستين للحكومة المستقيلة على الرغم من الاعتراض المسيحي شبه المطلق على انعقادهما. وهو ما ولّد بطبيعة الحال ردود فعل في الوسط المسيحي، لا من قبل التيار العوني الذي عاد على لسان رئيسه جبران باسيل إلى التلويح بخيارات “أبعد من التوازنات والتفاهمات” في إشارة إلى المطالبة بالفدرالية، بل أيضاً من قبل القوات اللبنانية التي تحدّث رئيسها سمير جعجع عن إعادة النظر في “التركيبة اللبنانية” في حال أراد حزب الله فرضَ رئيس للجمهورية.
بغضّ النظر عن اختلاف سياق كلام كلّ من جعجع وباسيل، فهما يعبّران عن ارتباك في السياسة المسيحية مردّه بشكل أساسي إلى سقوط نظريّة “الرئيس القوي” بما يضمره هذا السقوط من فشلٍ في إعادة إنتاج الحضور المسيحي في الحكم والدولة وفق قواعد جديدة. ولذلك يصبح ضعف التيار الوطني الحرّ بسقوط سرديّته ضعفاً للقوات اللبنانية أيضاً التي تماهت أو لم تستطع التمايز عن هذه السرديّة وإن سلكت سلوكاً سياسياً مختلفاً.
إقرأ أيضاً: حديث جعجع عن الفدرالية… خدمة “مجّانيّة” لباسيل
يُنتج كلّ ذلك أزمة مسيحية مركّبة مع المجموعات الطائفية الأخرى وداخل الطائفة نفسها. فبين سقوط التوافقية الطائفية في النظام وانسداد الأفق أمام إلغاء الطائفية السياسية وتطبيق اللامركزية “الماليّة” الموسّعة واستحالة العبور إلى نظام جديد، تُعيد الأحزاب المسيحية إنتاج أزمتها في وقت يعاني فيه الوسط المسيحي من ضمور حيويّته السياسية والفكرية الذي يسمح للأحزاب بالالتفاف على فشلها وينعكس في اجترار الغالبية السياسية والشعبية أفكاراً غير قابلة للتطبيق أو ليس تطبيقها رهنَ إرادتها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@