أما كان لذلك الليل الذي لا يشبه أيّ ليل آخر أن ينتهي؟
لكنّه وطن ليليّ، كان أبناؤه يصحون صباحاً على البيان رقم واحد. مثل حفلات الإعدام التي لا تُقام إلّا في الصباح. سيأخذ المعدومون صيحة الديك معهم ذكرى أخيرة من عالم ضاق بهم. كان عالماً مرّوا به كما يفعل الخيط حين يخترق ثقب الإبرة. انزلقنا فيه من الأفكار إلى الأحزاب ومن الأحزاب إلى العشائر وكان الصياح أكبر من أن يُرى. لقد شقّت الصيحة الفضاء، فإذا بنا قد انتقلنا من زمن الأحزاب إلى زمن الطوائف، وكان ذلك مناسبة لحروب بدأت ناعمة يوم كان بعضنا يضحك من البعض الآخر على سبيل التسلية، فإذا بنا، وقد اسودّ ليلنا، نتحوّل إلى وحوش كاسرة، لا نريد الحياة إلا بوصفها علبة متفجّرات جاهزة.
حين ظهر الشعر الرسمي، والعراق وحده الذي عرف تلك الظاهرة، خرج شعراء المديح من الغرف المنسيّة ولم يكن لهم علاقة بالتجربة الشعرية التي كانت عبارة عن سباق انتحاري في اتجاه قمّة وهمية
كان السكارى يخرجون من بار المرايا وقد نعموا بالنظر من بعيد إلى “حسب الشيخ جعفر”، الشاعر الذي نشر ديوان “الطائر الخشبي” وقصيدة “القارة السابعة”. كنّا أحداثاً يوم فتح ذلك الشاعر أمامنا أبواب تلك القارّة التي صرنا نبحث بين أعشابها عن قنفذنا الضائع، وكان فاضل العزاوي قد ظللنا بأغصان شجرته الشرقية قبل أن يرحل إلى برلين. “هل رأى الحبّ سكارى مثلنا؟”.
كان أبو نؤاس، وهي كنية الشاعر حسب الشيخ جعفر، يذهب وحيداً إلى عزلته في فضاء خاصّ به في اتّحاد الأدباء الواقع في ساحة الأندلس، يتبعه حشد من الأمراء والصعاليك الذين تحلِّق أحاديثهم فوق رؤوسهم مثلما يحدث في الرسوم المصوَّرة. كنّا شعراء يتامى. البعض منّا صار الآن ميتاً. كمال سبتي، رعد عبد القادر وقبلهما مات صاحب الشاهر بعد كتاب وحيد هو “أيّها الوطن الشاعريّ” من غير أن يعترف بأنّ ذلك الوطن لم يكن شاعريّاً. سيُسجن الشاهر في كتاب واحد، وسيكون ذلك سبباً لجنونه في الآخرة. لن تنفع محبّتنا. لن تنفع محبّته لوطن غادره.
“ألم تكن سعيداً؟”، ذلك سؤال ينتمي إلى عالم الفكاهة في العراق. كان صاحب الشاهر هو الأكثر حزناً من بين أبناء جيلي. كان في منتصف سبعينيات القرن العشرين يتحدّث همساً عن الكارثة التي ستحلّ بالعراق. كنّا نسقط واحداً إثر الآخر في هاوية ذلك العبث الذي جعلنا سُكارى وما نحن بسُكارى. وكان الشاهر أقربنا إلى الموت، وهو ما تحقّق حين مات صغيراً ولم يترك أثراً وراءه سوى كتابه “أيّها الوطن الشاعريّ”.
عصر الحزب الواحد
لم تكن بغداد تتّسع للآخرين. لذلك فشل الشيوعيون من خلال “الجبهة الوطنية” في أنسنة الوحش العراقي السابح في خيال الدم. وما إن انهارت تلك العلاقة التي بُنيت على الوهم حتى اختفى الجزء الأكبر من جيلنا. كان هناك مَن التحق بالشيوعيين لأنّه أدرك أنّ البلاد مقبلة على الكارثة. ولكنّنا جيل ظهر بدفاتر ينبعث منها الدخان. ما كُتب فيها هو عبارة عن جُمل ناقصة سيشمت النثر بمعطفها الشعري المليء بالثقوب. كنّا حطباً من كلمات، وكان العالم من حولنا يحترق. كان علينا أن نُخفي ما يمكننا إخفاؤه عن طريق الكذب. ولكن ما الذي نُخفيه وقد صرنا مرئيّين، جوقة شعراء لا هم بلهاء ولا هم محترفو غناء.
كان للموت ضحكته التي تضرب الأبواب بسُحُبها المتفرّقة. ليست العودة من الموت نوعاً من البطولة. كان الأمر يجري يوميّاً كما لو أنّه عادة مسلّية
حين ظهر الشعر الرسمي، والعراق وحده الذي عرف تلك الظاهرة، خرج شعراء المديح من الغرف المنسيّة ولم يكن لهم علاقة بالتجربة الشعرية التي كانت عبارة عن سباق انتحاري في اتجاه قمّة وهمية. كان الوطن كلّه مُطعَّماً بحلوى مسمومة فيما كنّا يائسين من هباته ونحن نفكّر في لحظة الفرج التي تمكّننا من الحصول على مجلّة “شعر” اللبنانية وعلى كتب يوسف الخال وأدونيس وشوقي أبو شقرا وأنسي الحاج. كلّها كتب مُنعت بمزاج شخصي من قبل شفيق الكمالي الذي عُزل فيما بعد ومات كمداً وبقي النشيد الوطني الذي ألّفه معتمَداً إلى سقوط الدولة العراقية عام 2003.
كان ليل العراق يضمّ الأحياء والأموات معاً. غير أنّ ليلاً بمزاج دموي لا بدّ أن يترك أثره على الشعر. تلك وصفة لم يخضع لها العراقيون إلا بطريقة الهواة الذين يعرفون أنّ المفاتيح التي يحملونها لا تصلح لفتح أيّ قفل. لقد انتهى عصر المروج المفتوحة على الجنّات الآهلة بالأطفال المجانين وبدأ عصر الحزب الواحد.
حين نجونا
كان للموت ضحكته التي تضرب الأبواب بسُحُبها المتفرّقة. ليست العودة من الموت نوعاً من البطولة. كان الأمر يجري يوميّاً كما لو أنّه عادة مسلّية. كلّ يوم مضاف هو حياة احتالت على الموت. بعد ربع قرن أنظر إلى ذلك الكوكب الذي لم يغادر الدخان نوافذه وأهمس لنفسي: “لقد نجوتُ”.
ألا يحقّ لنا أن ننسى؟ نمشي بحمولة جندي التهمت الحرب أحلامه. لا أحد في إمكانه أن يقتل الألم حين يتّخذ هيئة شبح هو أشبه بالقرين. صار الألم يمشي بأقدامنا ونحن نسعى إلى كتابته شعراً.
إقرأ أيضاً: كاظم الساهر يواجه “الاحتلال الإيراني” للعراق؟
“نجونا”، لكن ما الذي نجا منّا؟ الذاكرة المتّسخة برائحة الجثث تقيم بين أصابعنا التي تلتقط الكلمات من هواء المروج المبتلّة بالدموع. لقد سبقنا الموت إلى الملجأ وصار يصطادنا واحداً إثر الآخر. لقد أهلكنا الحنين حتى صرنا نسمّيه عدوّاً. “أيّها الحنين. يا عدوّي”، مات سعدي يوسف ومنع الشامتين من إلقاء الزهور على قبره. وكان هو الولد الأكثر شغباً ونعومة وابتهاجاً. تعالي أيّتها الملائكة. ذلك احتفال يُذكّر بابن جيكور. السيّاب الذي وقف غريباً على الخليج. ما من أحد رآه وهو يصرخ: “أصيح بالخليج يا خليج/ يا واهب اللؤلؤ والمحار”.