لدى الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي مشروع اقتصادي كفيل في حال نجاحه بأن يقلب وجه مصر ووجه الشرق الأوسط. في قلب هذا المشروع عاصمة جديدة تمتدّ على مساحة 688 مليون متر مربّع، أي ما يعادل عشرين ضعف مساحة بيروت، وفي وسطها أعلى برج في إفريقيا. وإلى الغرب مدينة العلمين الجديدة، ومشاريع هائلة للطرق والجسور والقطارات والمترو، وقبل ذلك قناة جديدة رفعت طاقة قناة السويس وقلّصت وقت انتظار قوافل السفن التي تمرّ عبرها بشكل كبير.
أظهر السيسي على مدى سنوات حكمه ثلاث سمات يتّصف بها القادة الذين يحفظ التاريخ أسماءهم طويلاً: الرؤية والجرأة والقدرة على التنفيذ. أحد الأمثلة تمكُّنه من معالجة أزمة الكهرباء في السنة الأولى من حكمه. كانت البلاد تعاني عجزاً في إنتاج الطاقة وارتفاعاً في التكلفة بسبب تقادم المعامل. يروي مسؤول تنفيذي في شركة عالمية كيف تولّى الرئيس المصري التفاوض والتوصّل إلى اتفاق مع شركة “سيمنس” بنفسه، فأنشأ ثلاث محطّات عملاقة بطاقة 14,400 ميغاوات (تعادل 16 ضعف الطاقة الإنتاجية لكلّ معامل “كهرباء لبنان”)، بتكلفة ستّة مليارات يورو فقط لا غير. كانت مصر حينذاك منهكة اقتصادياً، وتعاني نقصاً حادّاً في العملة الصعبة، لكنّه تمكّن من تنفيذ المشروع خلال فترة قياسية لا تتعدّى 28 شهراً.
السيسي صاحب واحد من ثلاثة مشاريع كبرى في العالم العربي لاقتصادات غير قائمة على النفط في العقود القليلة الماضية. نجح واحد منها نجاحاً مذهلاً، وسقط الآخر بالدم، ويمرّ الثالث بالاختبار الأكثر دقّة
العاصمة الإدارية مثال آخر. فانتقال الوزارات والإدارات العامّة يتوالى أسبوعاً بعد آخر. وباتت فيها ستّ جامعات يدرس فيها نحو ستّة آلاف طالب.
حجم النهضة العمرانية في السنوات الأخيرة غيّر مصر بوتيرة لا سابق لها منذ عهد محمد علي باشا. لكنّ الإنفاق يحتاج إلى تمويل، والتمويل يحتاج إلى اقتراض، والاقتراض منهِك للاقتصادات الناشئة في الظروف العالمية الراهنة، ومع ارتفاع معدّلات التضخّم والفائدة إلى مستويات غير مسبوقة منذ أربعين عاماً.
اجتمعت هذه الظروف لتدفع بمصر إلى أزمة اقتصادية ربّما تكون الاختبار الأشدّ دقّة للسيسي وعهده في حكم مصر. تواجه البلاد فجوة تمويلية كبيرة بين ما تحتاج إليه لتمويل مشاريعها وإنفاقها الجاري واستيرادها الاستهلاكي، وبين ما يوفّره الاقتراض والمساعدات من موارد. وتفاقمت الصعوبات بسبب تثبيت سعر الصرف على مدى سنوات، والارتفاع السريع للدين الخارجي.
اضطرّت القاهرة إلى قرارات صعبة في الأسابيع الماضية، لتلبّي الشروط التي وافقت عليها للحصول على البرنامج التمويلي الثاني من صندوق النقد الدولي خلال ستّ سنوات، بقيمة ثلاثة مليارات دولار على مدى 46 شهراً، تُضاف إليها ستّة مليارات من جهات دولية وإقليمية أخرى.
القرارات الصعبة وتمويل المشاريع القوميّة
بدأت القرارات الصعبة بتعويم الجنيه، فارتفع سعر صرف الدولار من 18 جنيهاً الصيف الماضي إلى نحو 28 جنيهاً اليوم. ثمّ أتى القرار الأكثر مرارة بعدما استُنفدت كلّ السبل لتفاديه، وهو تأجيل المشاريع القوميّة التي تتطلّب دفعات دولاريّة.
لا تنفصل صورة السيسي في الأذهان عن افتتاح المشروعات القومية الكبرى، والحديث المفتوح أمام الشاشات مع المسؤولين عن تنفيذها في التفاصيل المالية والفنّية. لم يتّضح حتى الآن المدى الذي سيشمله توقّف المشاريع، لكنّها بالتأكيد لحظة دقيقة يعيشها مشروع النهضة المصري.
نجاح دبي وسقوط بيروت واختبار القاهرة
السيسي صاحب واحد من ثلاثة مشاريع كبرى في العالم العربي لاقتصادات غير قائمة على النفط في العقود القليلة الماضية. نجح واحد منها نجاحاً مذهلاً، وسقط الآخر بالدم، ويمرّ الثالث بالاختبار الأكثر دقّة. المشترَك بين هذه المشاريع أنّها قامت على التمويل من دون إيرادات هيدروكربونية، ولذلك لا بدّ لها أن تصنع اقتصاداً يولّد الإيرادات ويعيد تكلفة التمويل.
مشروع محمد بن راشد في دبي سيُحفر في تاريخ الاقتصاد لمئات السنين. مدينة صغيرة فقيرة بالموارد النفطية والمائية والزراعية والسكّانية، وليس فيها شيء من مقوّمات السياحة، وإذ بها تتحوّل خلال ثلاثة عقود إلى واحدة من أشهر سبع مدن في العالم، وتصبح ثاني مدينة في العالم بأبراجها التي تفوق مئتي متر، متفوّقة على نيويورك ولندن وباريس وطوكيو، ويصبح مطارها أكثر ازدحاماً من هيثرو.
ينسى كثيرون الاختبار الذي اجتازته دبي حين انقطعت خطوط التمويل الخارجي خلال الأزمة المالية العالمية عامَيْ 2008 و2009. اضطرّت حينذاك إلى إعادة هيكلة ديون العديد من الشركات المملوكة للحكومة. لكنّ القرار الكبير الذي اتّخذه محمد بن راشد يومئذٍ كان الاستمرار بمشاريع البنى التحتية وبعدد من المشاريع العملاقة، ولا سيّما “برج خليفة” الأعلى في العالم وشبكة المترو وسواهما. صنع ذلك القرار التاريخ مرّة أخرى. حين تعافى الاقتصاد العالمي كانت دبي جاهزة لاستقبال دفق المستثمرين والشركات العالمية. وكان افتتاح “برج خليفة” عام 2010 إيذاناً بالولادة الثانية للأعجوبة الاقتصادية في تلك المدينة.
لا يعود نجاح دبي فقط إلى النموذج المالي الذي قامت عليه المشاريع، بل لأنّها قدّمت نموذجاً في الإدارة الكفوءة الخالية من الفساد والمحسوبية، وهذا ما كان ينقص لبنان. لم تنقص الرئيس الشهيد رفيق الحريري الرؤية ولا الجرأة ولا القدرة على التنفيذ. لكنّ امتلاكه القرار الاقتصادي كان نوعاً من التسويات التي تأتي بكلّ الفاسدين ليحكموا معاً، ثمّ تودي بكلّ شيء في ليل سياسي عاصف. صمدت التسوية ستّ سنوات كانت كافية لإعمار وسط المدينة والمطار والمدينة الرياضية والمستشفى الحكومي والمدينة الجامعية ومعامل الكهرباء وأوتوسترادات وجسور كثيرة، وكلّ ذلك بتكلفة لا تزيد على 10% من خسائر “كهرباء لبنان”، ولا تصل إلى حصّة زعيم واحد من التوظيف في أجهزة الدولة.
إقرأ أيضاً: تحرّك السيسي خليجيّاً أنقذ مصر من كارثة!
مصر ليست لبنان، لكنّها ليست دبي. فيها حكم قوي، وقد أثبت في الأشهر الماضية القدرة والجرأة على التصحيح في الوقت الملائم، كما أثبت ذلك من قبل في 2016، عندما توصّل إلى الاتفاق الأوّل مع صندوق النقد. لكنّ الاختبار الراهن ليس سهلاً، وقد يحتاج إلى قدرات فائقة من جهاز البيروقراطية الذي يدير الدولة لاجتذاب الاستثمارات واكتساب ثقة الشركات العالمية ومجتمع الأعمال في الداخل، وذاك هو الجهاد الأكبر.