الفشل الفرنسي الكبير هو في “لبنان الكبير”. وهو فشل ملازم للسياسات الفرنسيّة منذ سنوات. فهي لا تحمل العصا، ولا تملك الجزرة. لنبدأ من الآخر.
1- سعت فرنسا، ولا تزال، لدى الأطراف الداخليّة والإقليميّة والعالميّة لانتخاب رئيس للجمهوريّة خلفاً لميشال عون، وفشلت.
2- فشلت فرنسا في سياسة مسايرة “الدويلة”. وهي سياسة ستزداد بعد التوسّط الفرنسي لدى حزب الله لتسهيل اتفاق ترسيم الحدود. تعتبر فرنسا أنّ للحزب جناحين، أحدهما سياسي والآخر عسكري. وهي تتعامل مع الأوّل، وتصنّف الثاني إرهابياً. يمثّل هذا التعامل قمّة “الهبل السياسي” (المصطلح كما استعمله الزميل طارق الحميّد في إحدى مقالاته في “أساس”). فالحزب هو نفسه. وأمينه العامّ هو ذاته. هو من يسخّر السياسة لحماية سلاحه، ويستعمل سلاحه للسيطرة في السياسة. وهو اليوم يريد “رئيساً لا يطعن المقاومة بالظهر”.
3- فشل الرهان الفرنسيّ على “لبنانيّة” حزب الله. قال الرئيس ماكرون لمحمد رعد “عودوا إلى لبنان”. وهو طلب يناقض كينونة الحزب وعلّة وجوده.
4- فشلت فرنسا في الضغط على الطبقة السياسية الحاكمة، منذ عام 2018 وما قبله، من أجل إجراء الإصلاحات اللازمة لتفادي الانهيار أولاً والخروج من الأزمة ثانياً.
5- تفشل في كلّ مرّة تحاول التسويق لتعديل الدستور اللبنانيّ الذي أُقرّ في الطائف من أجل إقرار المثالثة في السلطة. وآخِرة محاولاتها لدعم الدعوة “المشبوهة” إلى عشاء في السفارة السويسريّة.
عام 2022 هو عام الأزمات في أوروبا. لكنّ الرئاسة الفرنسيّة للاتّحاد الأوروبي (كانون الثاني – حزيران) نجحت في تمتينه في مواجهة الخطر الروسيّ
هل تغيّر فرنسا، في عام 2023، مقاربتها لملفّات لبنان والمنطقة في ظلّ تخبّط إيران في أزماتها وبعد تأكّدها أنّ الموقف العربيّ في مواجهة إيران ثابت؟!.
لكنّ لفرنسا، قبل سياساتها الشرق أوسطية، سياساتها ومصالحها الوطنيّة أوّلاً والأوروبيّة ثانياً. لذلك يجب التوقّف، ولو سريعاً، عند ما حدث فرنسياً وأوروبياً، في إطار الكلام عن “جردة” العام فرنسيّاً.
نجاحات في فرنسا
ربّما ما علق في أذهان الناس هو الحادثة المأساوية التي حصلت في باريس عشيّة الميلاد. فقد أطلق فرنسي متطرّف الرصاص على مهاجرين أكراد. قَتَل ثلاثة وجرح ثلاثة. الحادثة خطيرة، إذ تشير إلى نموّ التطرّف العنصريّ في فرنسا، كما في بلدان أوروبيّة أخرى (ألمانيا). ولكنّها لا تختصر عام 2022 فرنسيّاً، فهو أيضاً عام العودة إلى الحياة “الطبيعية” اقتصادياً واجتماعياً بعد جائحة كورونا. وقد نجحت فرنسا بنسبة كبيرة في هذا الإطار، وفي ما يلي الأرقام تتكلّم:
1- نجحت فرنسا في استعادة نموّها الاقتصادي بعد الجائحة. فبلغت نسبته 2.5 في المئة. وهي نسبة لا بأس بها حتى لو كانت أقلّ من المتوقّع (2.7) في الميزانية الوطنية. والسبب حالة الركود التي عرفتها البلاد في الفصل الأخير من السنة.
2- انخفاض نسبة البطالة إلى 7.3%. صحيح أنّ هذه النسبة تبقى أعلى من النسب في دول صناعية كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركيّة (3.8%) أو ألمانيا (5.5%)، لكنّها نسبة جيّدة لفرنسا حيث كانت نسبة البطالة 10% قبل عشر سنوات.
3- زيادة القوّة الشرائية الفرنسيّة بنسبة 1.5% عمّا كانت عليه في 2019، على الرغم من الأزمة الاقتصادية بنتيجة الحرب على أوكرانيا. في حين بقيت القوّة الشرائية في ألمانيا على حالها، وانخفضت في إيطاليا (-0.7%) وبريطانيا (-2.3%) وإسبانيا (-6.8%).
4- نجحت فرنسا في جذب المزيد من الاستثمارات الخارجيّة التي بلغ عددها 1,222 حتى نهاية العام بزيادة 235 استثماراً عن 2021. وتقدّمت بذلك على بريطانيا (993) وألمانيا (841).
5- حافظت فرنسا على ترتيبها بين الدول المصدّرة للأسلحة خلف الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وكان الشرق الأوسط الشريك الأوّل لها. ففي نهاية عام 2021، عقدت فرنسا صفقات أسلحة كبرى مع مصر (30 طائرة رافال) ومع المملكة العربيّة السعوديّة. وكانت الصفقة الكبرى مع دولة الإمارات العربيّة المتحدة (80 طائرة رافال و16 مروحيّة)، وبلغت قيمتها 16 مليار يورو.
6- في فرنسا، كما في أوروبا والعالم، كان عام 2022 عام الأزمات التي خلّفتها الحرب الروسيّة على أوكرانيا. وأبرزها أزمة الطاقة. لكنّ فرنسا تبقى أقلّ الدول الأوروبيّة تأثّراً بها. فهي نجحت في ملء مخزونها الوطني من الغاز بنسبة تخطّت 99% حتى نهاية شهر تشرين الثاني. ونجحت أيضاً في تأهيل مفاعلاتها النووية التي كانت خارج الخدمة بسبب الإصلاحات والصيانة. فعاد قسم منها إلى الخدمة قبل نهاية العام، وسيعود القسم الباقي إلى العمل مع بداية 2023.
أخطأت فرنسا منذ البداية، كما غالبية الدول الغربية، في تقدير حجم الاحتجاجات الشعبية في إيران
تمتين الاتّحاد الأوروبيّ
عام 2022 هو عام الأزمات في أوروبا. لكنّ الرئاسة الفرنسيّة للاتّحاد الأوروبي (كانون الثاني – حزيران) نجحت في تمتينه في مواجهة الخطر الروسيّ. فبعد أيام على انطلاق الغزو الروسي دعا الرئيس إيمانويل ماكرون إلى قمّة أوروبية في قصر فرساي (10-11 آذار). خرجت القمّة بموقف أوروبي موحّد يعارض الغزو الروسي ويدعو إلى مواجهته. وأقرّ المجتمعون بالإجماع:
1- تقديم دعم عسكري لأوكرانيا غير مسبوق منذ الحرب العالميّة الثانية. بدأ بـ 2 مليار يورو، وتطوّر إلى 9 مليارات في نهاية العام. وأقرّوا مساعدات بملايين اليوروات للشعب الأوكراني.
2- أقرّوا تحقيق استقلالية أكبر للاتحاد في المجالات العسكريّة والغذائية والطاقة والموصِلات الكهربائية (semi-conducteur). وتبقى العبرة في التنفيذ!
استمرار الفشل في إفريقيا
فرنسا قوّة عالميّة لها مصالح وعلاقات مع عدّة عوالم جيوسياسيّة خارج أوروبا واتّحادها. أوّل هذه العوالم إفريقيا التي لها علاقة استراتيجية معها تشمل المهاجرين غير الشرعيين، اليد العاملة، الجالية الفرنسية الكبيرة من أصول إفريقية (شكّل السود نصف المنتخب الفرنسي في كرة القدم). لم تنجح فرنسا خلال عام 2022 في تحسين وضعها إفريقيّاً. ويمكن اختصار الأسباب بثلاثة:
1- تاريخ الاستعمار الفرنسي لا يزال حاضراً في أذهان الشعوب الإفريقية. هذا ما ظهر واضحاً خلال زيارة ماكرون الأخيرة للجزائر.
2- استمرار فرنسا في سياسة استعمار مقنّعة.
3- المنافسة الصينيّة، اقتصادياً وتجارياً، في مجال الطاقة، والروسيّة في المجال العسكريّ، بخاصّة من خلال فريق فاغنر.
في الشرق الأوسط المعقّد
“في الشرق الأوسط المعقّد”، كما وصفه شارل ديغول، نجحت فرنسا في ملفّات وفشلت في أخرى:
1- نجحت فرنسا في تطوير علاقاتها العربيّة، بخاصّة مع مصر ودول الخليج. وهذه السياسة هي استمرار لسياسات أسلاف الرئيس الفرنسي الحاليّ.
2- فشلت، مع أقرانها الغربيين، في إنجاز الاتفاق النووي الإيراني، كما فشلت سابقاً في تخطّي العقوبات الأميركيّة منذ 2018.
3- أخطأت فرنسا، مثل أقرانها الغربيين، في تقدير موقف دول الخليج وإسرائيل الرافض لنفوذ إيران وبرنامجها للصواريخ الباليستية. فهم لم يتعاملوا جدّيّاً مع هذين الملفّين المهدِّدَين لدول المنطقة والمزعزعَين لأنظمتها.
إقرأ أيضاً: رحلة الدولار مستمرّة صعوداً: 75 ألفاً نهاية 2023؟
4- أخطأت فرنسا منذ البداية، كما غالبية الدول الغربية، في تقدير حجم الاحتجاجات الشعبية في إيران. فبعد أيام على اندلاعها التقى ماكرون نظيره الإيراني في نيويورك على هامش القمّة العالميّة. لكن أدرك الإليزيه والكي دورسيه فيما بعد أنّ الاحتجاجات جدّيّة ويجب دعمها، فالتقى ماكرون ناشطات إيرانيات على هامش المنتدى من أجل السلام، وحيّا “الثورة الإيرانيّة”، واتّخذت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا موقفاً حاسماً ضدّ “ابتزاز” النظام في طهران الذي يحتجز 7 رهائن فرنسيين.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية