رأس سنة 1972: ثقب بيروت الأسود لتحرير فلسطين

مدة القراءة 9 د

الساعة الثالثة بعد ظهر النهار الأخير من سنة 1971. كانت قد بقيت 9 ساعات لنستقبل العام الجديد 1972.

مكاتب الأبورات.. وانتحار

أدرت محرّك سيّارتي العمومية، من نوع مرسيدس 180 موديل 1959، وسرت بها نزولاً من منزلنا في الفاكهاني – الطريق الجديدة، أمام مبنى “الديمقراطية” مقابل “أفران السعادة”، وانعطفت يساراً عند زاوية بناية مكتب أمن “أبو الهول”، إلى “الكاراج الموقوف”، كاراج درويش، الذي يقع فوقه مكتب “جبهة التحرير العربية” – البعث العراقي.

كان يتجمّع أمام المكتب عدد من طلاب وطالبات “منظّمة كفاح الطلبة”. وغالبيّتهم من طلاب الجامعة الأميركية في بيروت ويستعدّون لسهرة رأس السنة. ربّما حجزوا لاحتفالهم بها في مطعم فيصل بشارع بلس. انتهت سهرتهم بـ”انتحار” أحدهم. وكان المنتحر فاروق المدوّر، الطالب في السنة الرابعة بكليّة الطب في الجامعة الأميركية.

“عجقة” عيد وزينة، ومشاريع سهر رُكِّبَتْ. بسطات طرابيش وزمامير. ونساء وبنات إمّا ذاهبات أو خارجات أو منتظرات دورهنّ عند “الكوافير”

بين “الكاراج الموقوف” وساحة الملعب البلدي، خرج من أحد الزواريب مقاتلون من “القيادة العامة – أحمد جبريل”. جُعَبُهم ملأى “بالإنرغات”، والكلاشينات تتدلّى من أكتافهم خلف ظهورهم، وفوّهاتها إلى الأرض. في أيديهم أعداد من مجلّتهم “إلى الأمام” يدورون بها على المارّة والمحلّات والسيارات لبيعها لحسابهم آملين أن يحصّلوا مصروف السهرة. جلّهم أمّيون لا يقرأون، ومستقدَمون من مخيّم اليرموك السوري – الفلسطيني.

انعطفتُ بالسيارة ثانية إلى اليسار لتجنُّبهم، واتّجهت إلى مقهى الصيداني (اليوم)، عند مفترق زاروب الدامرجي، حيث بعض مكاتب “أبي عمّار”. عدد من “شباب أبي عمّار” بكَّر في لبس الطرابيش الورقية الحمراء، والنفخ في زمامير ورقية ملتفّة تنبسط عند النفخ فيها “فقيسةً” وتطلق صوتاً مزعجاً من فم نافخها عندما يقرِّبها من وجهك.

سجون وجامعة وثوّار

إلى اليمين وراءهم، لم يكن مبنى كليّة الهندسة التابع لجامعة بيروت العربية قد بُنِي بعد. ملعب الجامعة الحالي كان في معظمه “سجن الرمل”. ومع السجن أُزيلت طريق، وضُمَّت إلى الملعب. ولا يزال صفّ أشجار داخل حيِّز ضيّق من ملعب الجامعة يرسم حدود الطريق القديمة. و”سجن الرمل” أُنشئ في سبعينيّات القرن التاسع عشر وجرَفَه طلبة الجامعة وخرّيجوها في عام 1975. شهدت غرف هذا السجن إعدامات متفرّقة: من أنطون سعادة، مؤسّس الحزب الانقلابي القومي السوري، إلى بائع فحم من آل عوّاد، كان قاتل نساء عُثر على أطرافهنّ مقطّعة بالبلطة، ومُخبّأة بين أكوام الفحم في دكّانه.

راح السجن يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد التفاف العمران حوله. وشاركه مصيره سجن آخر: “سجن القلعة” في كراكاس برأس بيروت الذي شُيِّدت مكانه مدرسة القلعة الرسمية. وفي ذاك الوقت باشر سجن “جديد، عصري، صحّي” عمله في خَراج بلدة رومية، واستفتح أعماله بإعدام  أحبّ الناس إليَّ (16/6/1972)، بسبب غلطة غير مقبولة ارتكبها بعدما جاوز الستّين من عمره، وشاركتُه فيها، لكنّه تحمّلها وحده وحماني.

في أوّل شارع عفيف الطيبي إلى جهة الجامعة العربية، وكان السير فيه باتجاهين، مثل شارعَيْ البسطة وبرج أبي حيدر، كانت جماعة من المتأثّرين بالثورة الطلابية في عام 1968 “يدردشون”، تلفّ أعناقهم الكوفية الفلسطينية المرقّطة بالأسود والأبيض، وفي أزرار مشكوكة بياقات سترهم تظهر صور “أبي عمّار” وجين فوندا (ممثّلة أميركية مناضلة ضدّ الحرب في فيتنام). فبيروت كانت آنذاك “الثقب الأسود” لمدن العالم وتجذب المناضلين والثوريين من بقاع الدنيا كلّها.

ملهى الفونتانا في عين المريسة مقابل السفارة الأميركية، اعتاد رفع صورة جمال عبد الناصر تحدّياً للسفارة، وأضاف إليها، قبل سنة، صورة “أبي عمّار”

أوهام وقتل واغتيال

“كمشة” شباب من لبنانيّي المناطق شدّهم “نداء المدينة” طلبوا منّي نقلهم بسيارتي العمومية إلى ساحة البرج. وفي السيارة تابعوا نقاشهم السياسي: أحدهم جزم أنّ عام 1972 سيكون عام “التحرير والتحرّر”. ردّد “أوهاماً” للمحلّل الاستراتيجي الثوري زاهر الخطيب أدلى بها قبل يومين. آخر يقاطع مصرّاً على أنّ عام 1972 هو عام “الوحدة العربية الشاملة”، وحجّته إعلان السادات والأسد والقذّافي قيام “اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة” ظهر ذاك اليوم. وثالث رأى أنّ خفض سنّ الاقتراع إلى 18 سنة سيتحقَّق في الانتخابات المقبلة (عام 1972).

شاركتهم أوهامهم. فأنا كنت مثلهم، بل أسوأ: اتّهمتُ الموساد باغتيال عبد الله عادل عسيران أمام منزله في صيدا قبل أسبوع، وبتحريك تظاهرة حاشدة من طائفة واحدة خرجتْ في صيدا مندِّدة بالاغتيال. لم أكن، بل لم نكن نعي أنّنا نعيش “أيّام القتل العادي”، على قول وضّاح شرارة، أو أنّ الطوائف عندما تتعثّر تبادر إلى الاغتيال.

“عجقة” عيد وزينة، ومشاريع سهر رُكِّبَتْ. بسطات طرابيش وزمامير. ونساء وبنات إمّا ذاهبات أو خارجات أو منتظرات دورهنّ عند “الكوافير”. أيدٍ تحمل قوالب الكاتوه داخل العلب، تخشى عليها “التخبيص”. أكياس ورقية بيضاء تحمل المشروبات والعصائر. في كلّ بيت حفلة أولى صغيرة تُقام قبل التاسعة مساء، وبعدها السهر خارج البيت.

قادة وفنّانات

لفّتْ زينة الميلاد ورأس السنة الفنادق الثلاثة النورماندي والفينيسيا والسان جورج. فندق الفينيسيا ثُبِّتتْ أمامه شجرة سرو عملاقة تكسوها بالونات زجاجية حمراء وصفراء وزرقاء وبيضاء، مع مرايا من أوراق ألمنيوم تعكس الأنوار ليلاً.

ملهى الفونتانا في عين المريسة مقابل السفارة الأميركية، اعتاد رفع صورة جمال عبد الناصر تحدّياً للسفارة، وأضاف إليها، قبل سنة، صورة “أبي عمّار”. صور “القادة” إلى جانب صورة الفنّانة طروب. ملهى الأوندين صُفَّت أمامه صور مرسومة بالفرشاة على “خشب معاكس” يحوطه إطار خشبي عريض، ترى فيها نزهة يونس، والراقصة قدرية محمد، والمطرب محمد خيري. وإعلان على لافتة قماش رُفعت في وسط الشارع: “طاولة 6 أشخاص مع مشروب وعشاء بـ150 ليرة”. باعة الورد واليانصيب يملأون الطرقات. جائزة رأس السنة: “جرّب حظّك، ربع مليون ليرة الجائزة الكبرى”. ربع مليون ليرة هي ثمن بناية في ذلك الوقت، أو مئة كلغ من الذهب.

لم يكن ذلك الزمن زمن “خروج الأهل على الدولة” فقط، بل كان زمن عزوف الدولة عن مفهوم الدولة. زمن شارف عمري على الانتهاء وما يزال مستمرّاً

صبيّة التلفريك

هناك على رصيف البحر، مقابل السان جورج والفينيسيا كانوا أربعة أجانب: رجلان في الخمسينيات، وامرأة أربعينية، وفتاة عشرينية. لم أعد أستطيع، اليوم، تذكُّر ملامح وجهها. لكنّني، إلى اليوم، حين أسترخي بين اليقظة والحلم، تستفيق في أنفي رائحتها، وتمرّ في ذاكرتي صورة الصدر الفتيّ الغضّ. كانت الصبية العشرينية ترتدي تنورة “مايكروجوب”، لا ترتفع شبراً فوق الركبة، بل تنزل شبراً عن سروالها الداخلي.

كان الأربعة من طاقم طائرة DC8، العاملة ضمن الخطوط الجوية البريطانية. كانت بيروت محطَّتهم في رحلاتهم بين لندن وكلّ من بومباي وكراتشي وطهران. ولم تكن حينها المحطة دبي أو قبرص أو عمّان أو القاهرة. كانت بيروت وحدها محطّة الطائرات والأقاليم.

هي مضيفة، وهذه أوّل رحلة لها على الخطوط الخارجية. الثلاثة الآخرون يعرفون لبنان. طلبوا الذهاب إلى جونية حيث التلفريك، والعودة إلى الفينيسيا حيث ينزلون. جلست العشرينية على المقعد الأمامي. سندت جسمها إلى الباب، ومدّت ساقيها في اتجاهي، وعلى قول ابن الرومي جلست جلوس “الأنثى تصدّت للذكر”.

سألتها: Are you British؟ نظرت إلى رفاقها وأجابت: In the eyes of British. كانت إيرلندية، ومعجبة ببيروت وبفيتنام، وتكره إسرائيل. تفاهمنا.

في التلفريك، صعد رفاقها في حافلة، وأصعدتني معها في حافلة أخرى. التصقت بي. طوّقتها بيدي ورفعتها إلى حضني. كنّا وحدنا في الحافلة معلّقين في الهواء. سنسهر رأس السنة معاً في الفينيسيا. لا لن نسهر في مكان واحد، بل سندخل ونخرج ونعود وندور على الأماكن كلّها.

تظاهرة الموحّدة والتوجيهيّة

التاسعة ليلاً في الحمرا. وسط الشارع نسير وحولنا مجموعات من الغرباء: أجانب، عرب، لبنانيون، بدو وحضر… نغنّي، نتدافش، نتداخل مع مجموعات تسير في الاتجاه المعاكس. أحدهم وضع على عنقها شاله الفلسطيني، وأنا حيّيته: “فيفا زوربا”. علب البيرة في يد الجميع، إلا أنا الذي لا أشرب. رفيق ألماني ناولها سيجارة صنوبر. مجَّتها مجّات قبل أن تردّها إليه. مجموعة طبل ودربكّة ودبكة تتكاثر أمام سينما “إلدورادو”، وشرطة تدور حولهم. شيء ما سيحصل.

تكاثر الجمع، وتفاقم الوضع مع الشرطة. إنّها تظاهرة طيّارة للقوى اليسارية والعروبية الطالبية اختارت التظاهر من سينما “إلدورادو” إلى سينما “الستراند” احتجاجاً على قرار وزير التربية يومها، غسان تويني، إلغاء معادلة التوجيهية المصرية والموحّدة السورية بالبكالوريا اللبنانية. “فلتسقط المؤامرة”، “العِلم للجميع”، كان هتاف “التظاهرة الطيّارة”.

جورجينا رزق وقتل عاديّ

سحبتها شدّاً من يدها إلى داخل سينما إلدورادو. سألتني وهي تتابع مشهد العراك عمَّ يحصل: “إنّها تظاهرة من أجل فيتنام”، أجبت. دلفتُ بها إلى صالة السينما، وخلفنا جمع. حامل الطبل ورفاقه دخلوا قبلنا إلى الصالة. خرجنا بعد ربع ساعة. على باب السينما وقف شرطي يحرس الطبل وإلى جانبه الدربكّة.

في الفينيسيا، ملكة جمال العالم جورجينا رزق وصديقها فيليب دوق سلف أبي حسن سلامة، وصحبهما. طلّوا على السهرة قبل توجُّههم إلى فندق البستان. موسيقى وألوان وشرائط وطاولات وبوفيه مفتوح: قريدس، كركدن، فودكا، شمبانيا، وويسكي. طرابيش وزمامير ورقص بين الطاولات وفوق الطاولات، وإطلاق رصاص وأصوات رشّاشات تُسمع في الخارج. سألتني عنها فقلت: “احتفال”. الثانية ليلاً أكملت السهرة معها في غرفتها بالفندق.

إقرأ أيضاً: لبنان.. الفراغ سيّد الأعوام

عندما خرجت من الفندق، نحو الساعة العاشرة من صباح ذلك الأحد، كانت بيروت صامتة. الرصاص الكثيف لم يكن احتفالاً، بل رصاص اقتحام مخفر طريق النهر، وقتل الشرطيَّين، ألفريد شيوع ومزيد أبو قنصل، على يد مسلّحين من الكرنتينا سعوا إلى إطلاق “فدائي” رفيق لهم أُوقف بالمخفر عقاباً على إطلاق نار الابتهاج.

لم يكن ذلك الزمن زمن “خروج الأهل على الدولة” فقط، بل كان زمن عزوف الدولة عن مفهوم الدولة. زمن شارف عمري على الانتهاء وما يزال مستمرّاً.

عصر ذلك اليوم، سلَّمت السيارة العمومية لصاحبها ومالكها، لأباشر يوم الإثنين 2/1/1972 عملاً جديداً: موظَّف في القسم الصحافي في سفارة الجمهورية العربية الليبية ببيروت.

مواضيع ذات صلة

شينكر لـ”أساس”: الحزب قد “يَقتُل”.. عون هو الرئيس وبايدن أساء للسعودية

حاضر دائماً في التفاصيل اللبنانية. داخل الادارة الاميركية أو خارجها يبقى فاعلاً ومؤثراً إنّه ديفيد شينكر المُساعد السّابق لوزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى. يعرفُ…

عام المرأة الإيرانية… ثورة نساء إيران: من الخميني إلى أدونيس والأسد

في نهاية عام 2022 يكون قد مرّ أكثر من مئة يوم على ثورة “المرأة، الحياة، الحرّية” المستمرّة في إيران. صحف، مجلّات، ومواقع صحافية إلكترونية عالمية…

فرنسا 2022: الفشل الكبير في “لبنان الكبير”

الفشل الفرنسي الكبير هو في “لبنان الكبير”. وهو فشل ملازم للسياسات الفرنسيّة منذ سنوات. فهي لا تحمل العصا، ولا تملك الجزرة. لنبدأ من الآخر. 1-…

رحلة الدولار مستمرّة صعوداً: 75 ألفاً نهاية 2023؟

تُظهر العودة إلى أرقام سعر الصرف في السنوات الثلاث المنصرمة أنّ الدولار كان يقفز كلّ سنة بين 17 و20 ألفاً، وهذا يعني أنّ وصول الدولار…