لماذا تريدون لأنفسكم هذه البهدلة وهذا الفشل؟ لماذا لا تتّعظون وتتعلّمون؟
هذا كان السؤال المدخل والمفتاح لمقاربة باريس. أمّا أصحاب الطرح فمجموعة لبنانية خليطة من مسترزقي سياسة ومتخمي جيوب ومتواضعي عقول وكتبة وطامحين وخائبين و”معاونين روحيين ومادّيين”. موزاييك يشبه موزاييك وطن الأرز والغاز والنفايات… يتناوب بشكل منظّم ومثمر على ثرثرات فوق ضفاف السين.
لماذا تريدون استقراراً في بيروت؟ فلنتصارح. أنتم لديكم هدفان اثنان لا غير: توتال في الجنوب. وبقاء نازحي الأسد شرق المتوسط. الباقي كلّه من لوازم التوضيب والتسويق.
حسناً. تعتقدون أنّكم بحركتكم هذه الممتدّة منذ انفجار آب 2020 حتى اجتماعات باريس الأخيرة، أنجزتم شيئاً من هذا الاستقرار الضروري لغرضَيْكم؟ أمَا من مراجعة لمسار 30 شهراً من جهودكم المهدورة؟!
هؤلاء دمّروا لبنان الوصاية والإذعان المستقرّين. قبل أن يعودوا فيدمّروا أنفسهم. باسيل بوهم دخوله شريكاً مضارباً مع مفعول رجعي عن 15 عاماً من الحرمان
الطرح اللبناني الأصيل
وعند طأطأة الرؤوس الباريسية اعترافاً بالانتكاس والتعثّر، تنطلق عبقرية الطرح “اللبناني البلدي الأصيل”:
إسمعوا. قيل للفرنسيّين. لا تعذّبوا أنفسكم. هذا بلد غير قابل للحكم: Ingouvernable. تمّ تحفيظ الكلمة بالفرنسية استظهاراً للناطقين بلغة الضّاد وأخواتها. كرّروها حتى انقطاع النفس. هو غير قابل لحكم ذاتي على الأقلّ. سكّانه شعوب من القرون الوسطى. لا تنخدعوا بربطة عنق أو لثغة فرنكوفونية. زعماؤهم إقطاعيون من أكثر أزمنة أجدادكم Les Gaulois (أيضاً حُفظت بالفرنسية) رجعيةً.
إقرأوا تاريخه. لم يعرف الاستقرار إلا تحت جزمة ما. أنظروا إلى كلّ الفوضى والكارثة والسقوط الحرّ الذي حقّقه منذ 2005 حتى اليوم. استقلال ثانٍ قلتم يومها؟ حرّية وسيادة؟! هذه هي النتيجة الحرفيّة والحتميّة. في المقابل، قارنوا مع فترة 1991 – 2005. استقرار ونموّ وازدهار. وتأمين مصالح كلّ المعنيّين بحلبة بيروت. من اليابان وضبط “الجيش الأحمر”. إلى واشنطن وتنفيذ كلّ إملاءاتها. ودائماً باسم الصمود والتصدّي. كيف تحقّق ذلك؟ لأنّ كلّ هؤلاء كانوا منضبطين تحت جزمة الوصاية.
هل تأمّل فخامة وسيادة الرئيس ماكرون مثلاً، أطال الله بعمره قلباً نابضاً لمحور الأَوْربة المقاومة، ما كان حصاد زيارتَيْه لتلك البيروت؟ أيّ نتيجة حقّقها حين جمعهم في بعبدا وقال لهم بتهذيب ديكارتيّ عقلانيّ فائق: مطلوب حكومة جديدة خلال أسبوعين؟
خرجوا من اللقاء، ومن دون أن يتبادلوا كلمة، اتّفقوا تلقائياً على ترك البلد 12 شهراً بلا حكومة، فقط كي يُفهموا “سيادته” أنْ ليس هكذا يُدار لبنانهم.
حكومة في غضون أسبوعين؟ رحم الله وطيّب ثرى من كان يفعلها. كان أبو يعرب، بين سلاسل مهمّاته القومية الهائلة، يمرّ على تلك السوبرماركت عند مفترق مقرّه العام على مدخل زحلة. يتناول القهوة في مقهى رصيفها. بين رشفة وأخرى، يطلب من النادل محرمة ورقية. مرّة أخذ كرتونة كروز دخان. كتب عليها تشكيلتنا الحكومية. أعطاها لأيّ نازلٍ صوب هؤلاء. فصدرت خلال يومين مراسيم وفرمانات وسمت فوق دستور وميثاق.
السبيل الوحيد لاستقرار بيروت
تريدون استقرار بيروت، هذا هو السبيل الوحيد. كيف؟
“أهل مكّة وشعابها” والشباب أنفسهم. قيل للفرنسيين. هم من رتّب الزمن السوري بلباقة وحذاقة ولياقة. لم يزعجوا أحداً طوال 15 عاماً. أبو جورج كان خير ركيزة. الآن لا مشكلة في اختيار أحد الأبوات المطابقين للمواصفات الضرورية.
أكثر من ذلك، عند انطلاق التركيبة، تعثّر الإخوان في التطبيق. بين تمسّك حسين الحسيني بما يسمّى طائفاً. وتعنّت سليم الحص ثمّ عمر كرامي. وفي الوقت نفسه اهتزّ الاقتصاد والليرة والثقة والأمن. ونزل متظاهرون وظهر حالمون بلبنان البائد الجميل. عندها ماذا فعل الرئيس الخالد؟ التقط الفرصة وأبرم الاتفاق مع السعودية. تعالوا وادخلوا شريكاً في اللعبة. جاء رفيق الحريري. واستتبّ الوضع وعاش الجميع حياة مثالية… حتى كان ذلك اليوم المشؤوم من شباط. يوم قيل أنّ رستم غزالة ظلّ يضرب رأسه بجدار مكتبه ساعة. لأنّه لم يعرف ولم يرَ ولم يسمع. وأدرك بالتالي أنّها ستكون النهاية وأنّه سيدفع الثمن…
بعدها، فلنعترف. كلّ المصائب التي ألمّت بلبنان عقبذاك، كانت نتيجة الدخلاء الطارئين على ذلك النموذج الفذّ، بعد 2005. جاء ميشال عون وسمير جعجع من خارج التركيبة. ثمّ جاءت 17 تشرين من خارج وجداننا التبعيّ. والآن يُقال أنّ تيمور بيك لم يعد يهضم تركة ذلك الزمن وليس مستعدّاً لتكراره.
هؤلاء دمّروا لبنان الوصاية والإذعان المستقرّين. قبل أن يعودوا فيدمّروا أنفسهم. باسيل بوهم دخوله شريكاً مضارباً مع مفعول رجعي عن 15 عاماً من الحرمان. وجعجع بانزوائه وكأنّه أبداً في دير القطارة ينتظر أبداً تكرار 12 آذار. وديوك الثورة بصراعهم وكأنّهم نماذج مصغّرة عن مخضرمي الوصاية يلهثون لوراثتهم لا غير. وتيمور بين صحراء خلافة الزعامة وصحراء الشويفات… فلنتخلّص منهم كلّهم مجدّداً. وبضربة واحدة ونرتاح.
عودة الإخوان
الآن لا تحاولوا المستحيل. أعيدوا إحياء الصيغة نفسها. ها هم أركان الوصاية السابقة جاهزون. ينتظرون. يتوقون إلى تكرار النموذج والتجربة. كلّ المطلوب منكم أن تقتنعوا. ثمّ أن تُقنعوا رباعيّ باريس معكم.
أكثر من ذلك. ووفق مقولة أن رُبّ صدفة… ها قد أطلّ علينا الآن الاتفاق السعودي الإيراني. إنّه الفرصة المثالية لتكرار المعادلة. كونسورسيوم جديد. فلتسمِّ الرياض من تريد. وليضع يده بيد من سمّته طهران عبر “الإخوان” (تجنّباً لذكر كلمة الحزب خوفاً من تنصّت مياه النهر). ولننطلق.
وكما كان سيادة الرئيس الأسد ضمانة لوصاية التسعينيات، لدى “الإخوان” كلّ القدرة ليكونوا ضمانة الوصاية الجديدة. وإن لم يعلنوا ذلك أو يرغبوا حتى. يُقنعهم الشباب متى صاروا دولة ورجالها. تماماً كما استدرجوا ضبّاط الأسد، غصباً عنهم أحياناً، إلى الكثير من موبقات وصايتهم.
تريدون استقراراً في الجنوب؟ ها نحن منذ 18 عاماً ولم تُطلَق رصاصة. تماماً كما تعهّد أبو جورج نفسه يومها. تريدون توتال وغازاً؟ ها قد أعطوكم اتفاقاً أمميّاً موقّعاً أسود على أبيض مع “دولة إسرائيل” الجارة الشيطان. ولم يسمحوا لابن امرأة، وزيراً كان أو رئيساً، بأن يفتح فمه ليسأل كيف حصل ذلك دستورياً، أو على ماذا وقّعنا تقنياً؟
ماذا تريدون أكثر؟ كلّ شيء ممكن على الطريق. فلننطلق بربّكم بلا تأخير. هذا هو النموذج المثالي: الضاحية محلّ عنجر. والباقي وفق التيسير للتسيير.
إقرأ أيضاً: بالوقائع والأدلّة والقانون الدوليّ: إليكم منظومة الخيانة العظمى
للدقّة والأمانة، لم يقتنع الباريسيون. لكنّهم وعدوا بنقل الطرح ببريدهم غير السريع. وصل العرض إلى اجتماعَي باريس الخماسي في شباط، والثنائي الأخير. لم يؤخذ به. أسباب الرفض لا وقت ولا مساحة لتعداد مطوّلاتها الآن. ربّما في صلة متّصلة.
عاد جواب الرفض إلى منظّري الوصاية الجديدة. حسناً. فلننتظرهم حتى رحيل رياض سلامة، قالوا. ولنسعّر النار تحت أقدام الجميع حتّى ذاك الوقت: ليرةً وأمناً وشارعاً ومشاعاتٍ وملاعب فوتبول، وأبواق بكين تهدهم من صنعاء حتى باخمونت. بضعة أشهر أخرى ونلتقي مجدّداً. ونعرض عليكم العرض نفسه. ولنرَ…
ونحن أيضاً في الانتظار.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@