القديم الذي قد نرغب باستعادته!

مدة القراءة 5 د

اطّلعتُ على الكتاب الذي أصدره أستاذا العلاقات الدولية الشهيران دومينيك فيدال وبرتران بادي بعنوان: “لن يعود العالم كما كان” (تشرين الثاني، 2022)، والذي يقولان فيه ذلك آسفَيْن، إنّما يحاولان على طول الكتاب تعليل ذلك. ونحن العرب شأننا مع القديم والجديد غير شأن سائر البشر.

نحن نعرف رأي فيدال وبادي في “أوضاع العالم”، فهما منذ أكثر من عقدٍ من السنين مزعوجان جدّاً من حقبة الهيمنة الأميركية (1990-2010)، ويريدان زوالها بأيّ ثمن. ومع أنّهما لم يسيرا مع فريد زكريا في مقولته عن عالم ما بعد أميركا (2004)، فهما ما كانا يتوقّعان أن يأتي التغيير من روسيا، بل من الصين، وبالطريقة التدريجية التي حصلت حتى الآن(!). وهما يقصدان بالماضي: الاتّحاد السوفياتي، الذي لا يمكن تصوّر عودته بالفعل.

 

أميركا صدّعت عالماً بَنَتْه

إذا أردتَ استعادة دول البلطيق فقط تحتاج إلى ثلاثة حروبٍ وأزيد. ولذلك فقد اعتبر الرجلان (وما يزالان) أنّ عدم العودة يعني المضيّ نحو المستقبل الذي لا يستطيعه غير الصين! إنّما ما الذي يمنع أن يكون التوجُّه نحو المستقبل مع الولايات المتحدة وعالمها أيضاً؟ يذهب الباحثان إلى أنّ العالم الذي بنته أميركا قد تصدّع بحيث ما عاد يمكن التأسيس عليه أو الانطلاق منه: برايتون وودز، صندوق النقد والبنك الدوليّان، الحلف الأطلسي، منظمة التجارة، الاختلال المناخي، الميزانيات العسكرية الأسطورية.. إلخ. ولذلك لا خيار للعالم إلاّ انتظار ما يمكن أن تقدّمه المبادرة الصينية للحزام والطريق (2013).

نحن اللبنانيين نحلم دائماً بالماضي ونعني به فترة قصيرة هي فترة الستّينيات. فحتى الخمسينيات نشب في آخرها النزاع الداخلي الشهير على كميل شمعون

تمثّل أميركا ماضياً ماجداً، وكذلك روسيا من وجهة نظر بعض مواطنيها على الأقلّ. أمّا الصينيون فلا شكّ أنّهم لا يرغبون في العودة إلى الماضي القريب أو البعيد، لأنّ حاضرهم أفضل بما لا يقاس. وكذلك الأمر مع الهند، فهي في حالة نهوض، ويقال إنّ نهوضها أكبر من النهوض الصينيّ.

فإذا مضينا باتجاه الأوروبيين واليابان نجد أنّهم منزعجون من الحالة التي هم فيها اليوم. أمّا العودة إلى الماضي فهي فكرة غير مستحَبّة لأنّه كانت فيه الحرب الباردة، وقبلها الحربان العالميّتان.

إنّ هذا الأمر ليس خاصّاً بالعوالم الأميركية والأوروبية، بل هو ينطبق علينا أيضاً. فالعودة إلى ما كان هي شعارٌ مشكلٌ إلّا إذا كان معناه الماضي البعيد. فنحن اللبنانيين نحلم دائماً بالماضي ونعني به فترة قصيرة هي فترة الستّينيات. فحتى الخمسينيات نشب في آخرها النزاع الداخلي الشهير على كميل شمعون. وقد تجد للرئيس شمعون فضيلة، لكنّك لن تجد لعهد عون، وهو من الماضي القريب، فضيلة واحدة. فبغضّ النظر عن إمكان العودة إلى الماضي، ليس هناك ما يُحمَد فيه كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى لبنان على الأقلّ.

 

الماضي لا يعالج المستقبل

ولنذهب إلى الجوار العربي المضطرب منذ أكثر من عقد. فقد يعني الماضي بالنسبة إلى عدّة جهات الاستقرار. لكن كانت هناك حروب صدّام، وعهود آل الأسد وعهد القذّافي. وما حصل من تغييرات يمكن اعتبارها إيجابية أو واعدة حتى في اليمن. لكنْ هناك نهضة كبرى في الخليج ومتغيّرات تُشعر بمستقبلاتٍ أفضل. وهكذا هناك في العراق وسورية واليمن وليبيا انقسامٌ عميقٌ على الماضي، وآخر على الحاضر، ولن يعتبر كثيرون العودة إلى الماضي حلاًّ لمشكلات الحاضر. فكلُّ ما في الأمر أنّ أوضاع الناس في بعض البلدان العربية هي من البؤس بحيث يتمنّى كثيرون (وغالباً ممّن لم يعيشوا ذاك الماضي) العودة إليه.

لا عودة إلى زمن الهيمنة الأميركيّة… والبدائل صعبة

في حديثٍ إلى صحيفة “الشرق الأوسط” قال برتران بادي إنّهما (هو وفيدال) لم يقصدا بالماضي الذي لا يمكن العودة إليه عالماً كان أفضل وأكثر استقراراً، بل يقصدان أن لا عودة إلى زمن الهيمنة الأميركية. إنّما ما هي البدائل؟ البدائل صعبة. فالكلام على تعدّد الأقطاب شديد التفاؤل. الأميركيون لا يسلّمون للصينيين والروس بالطبع. والأوروبيون ما عادوا معتادين على عالم توازُن الرعب بدون قواعد. ثمّ إنّ تحديد حجم كلّ قطب يحتاج إلى زمان. فلا شكّ أنّ روسيا تريد أن تأخذ معها بعض شرق أوروبا والبلقان وسورية.. إلخ. والصين كذلك في بحرها الجنوبي وما حوله. والهند لا تكفيها حرّية التجارة. والصراع على الموارد والمجالات حرم ويحرم الدول العربية المضطربة من الاستقرار وحماية الدم والمال والسيادة.

وهكذا لا يريد كلّ الطامحين والأقوياء العودة إلى الماضي، ربّما باستثناء روسيا. وقد يرغب بعض الضعفاء والمضطربين في العودة إلى حالةٍ من الاستقرار. لكنّ هذه حالة لا يسمح بها الأوساط الذين يريدون التحوّل إلى “أقطاب”، فالأقطاب شموس ويريدون من حولهم كواكب. فهل تستطيع إقناع إيران وتركيا بغير ذلك؟

إقرأ أيضاً: “أنت لا تعلم حجم ما لا تعلم” (كيسنجر)

كيسنجر والحنين إلى الماضي

هنري كيسنجر ابن التاسعة والتسعين شديد الحنين إلى الماضي القريب، أي الأربعينيات من القرن العشرين وما بعد. فقد ذكر في كتابه: القادة (2021) ستّ شخصيات كانت ميزتها الرئيسية في القيادة الحفاظ على الاستقرار بأيّ ثمن. والاستقرار عنده ثلاثة أقسام: اقتصادي وسياسي واستراتيجي. ولو تأمّلنا كلامه بدقّة لوجدنا أنّه ليس مسروراً كثيراً بزوال الاتحاد السوفيتي، على الرغم من أنّه عمل بحماسة على مصارعته. وكيف ننسى اتجاهه هو ونيكسون إلى مصادقة الصين ضدّ روسيا. وهو لا يريد الآن لروسيا الهزيمة، وقد اقترح خططاً للحلّ لم يأبه لها أحد. كيسنجر مثل غيره يشتدّ حنينه إلى الماضي، إمّا لأنّه كان فعّالاً فيه، أو لأنّ الأخطار على سلام العالم كانت أقلّ. وعلى ذلك فهو متيقّن أنّ الماضي لن يعود.

إذا كان من غير الممكن الإجماع أو الاتفاق على الماضي، أو التسليم بالحاضر، فإنّ استشراف المستقبل يظلُّ شديد العُسْر، وأمّا الحنين إلى الماضي على طريقة كيسنجر، فلا يقلّ عن ذلك صعوبةً.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…