من الصعب على المتابع أن يصدق أن من يتخذ القرارات في مصرف لبنان هو نفسه رياض سلامة، أسطورة الاستقرار النقدي على مدى 27 عاما.
التطورات التي شهدتها تصنيفات لبنان السيادية وتصنيفات البنوك الكبرى في الأيام الماضية ليست إلا التعبير المباشر عن التبعات المريعة لسلسلة من الخيارات الجدلية التي اتخذها مصرف لبنان في الأسابيع الماضية، وآخرها قرار خفض الفائدة على الودائع الجديدة، وسداد نصف الفوائد على الودائع الدولارية القائمة بالليرة اللبنانية.
وكالة “فيتش” خفضت تصنيف البلاد السيادي إلى CC، وهي ثاني أدنى مرتبة قبل التعثر. ولا مثيل لها لدى الوكالة أو يفوقها سوءا سوى تصنيف الأرجنتين (CC) التي تعثرت ثماني مرات في سداد ديونها، وتصنيف فنزويلا المتعثرة بالفعل (RD).
هذا يشير إلى أن قرارات خفض التصنيف قد تتوالى سواء على مستوى التصنيف السيادي أم على مستوى تصنيفات البنوك
ثم أتبعت فيتش ذلك بخفض تصنيف بنكي “عودة” و”بيبلوس” إلى RD الذي يعني “التعثر المقيّد”، وهو تعبير تعرّفه الوكالة بأنه تعثر في سداد بعض الاستحقاقات من دون الدخول في إجراءات الإفلاس أو التصفية. وسبقتها “موديز” قبل يوم واحد بخفض تصنيف “بلوم” و”عودة” و”بيبلوس” إلى Ca، وهي أدنى مرتبة لديها قبل التعثر الكامل الأوصاف.
الوكالتان أعطتا التفسير نفسه لقراراتهما، وهو أن سداد الفائدة على الوديعة الدولارية بالليرة اللبنانية يعد تعثراً في أداء الودائع وفق معاييرهما. ويعزز ذلك الفرق الشاسع بين السعر الرسمي الذي تسدد وفقه الفوائد بالليرة اللبنانية، وسعر صرفها المتداول في السوق الموازية. ما يعني أن المودع لا يحصل في الواقع على كامل الفائدة التي تعاقد عليها.
هذا يشير إلى أن قرارات خفض التصنيف قد تتوالى، سواء على مستوى التصنيف السيادي أم على مستوى تصنيفات البنوك. ولعل الأهم من بينها قرار الوكالة الأكبر والأهم عالميا، “ستاندرد أند بورز”، والتي خفضت تصنيف لبنان في 15 نوفمبر الماضي إلى CCC، وأنذرت بخفض آخر في مدى ستة أشهر إلى 12 شهرا، إذا زادت الأوضاع سوءا.
قرارات خفض التصنيف يلمس آثارها المواطن العادي بشكل مباشر. فنفاد السلع في متاجر التجزئة وشح البنزين في محطات الوقود مرشحان للتصاعد، في ظل الصعوبات التي تواجهها البنوك في فتح الاعتمادات لعملائها من الشركات المستوردة على نحو غير مسبوق في أسوأ مراحل الحرب الأهلية.
فالبنك اللبناني يحتاج عادة إلى تغطية من البنوك الدولية المراسلة (correspondent banks)، لسداد ثمن البضائع المستوردة. ويقول مصرفيون إنه كان من المعتاد سابقا أن يكتفي البنك المراسل بتغطية لا تتجاوز 15% من البنك اللبناني لإمضاء العملية. لكن خفض التصنيفات وظروف عدم اليقين السياسي والاقتصادي جعلت البنوك المراسلة تطلب تغطية كاملة للرصيد المطلوب.
حاول رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري التخفيف من وقع الأزمة عبر الطلب إلى قادة عدد من الدول توفير خطوط ائتمان بديلة للاستيراد، لكن قليلا من النجاح تحقق على هذا الصعيد. إذ وفر البنك الأوروبي للإعمار والتنمية خطوط ائتمان لستة مصارف لبنانية بقيمة 250 مليون دولار، وهو رقم زهيد مقارنة بحجم مستوردات لبنان التي تتجاوز 1.6 مليار دولار شهريا.
التساؤل الذي يطرح نفسه: لماذا اتخذ مصرف لبنان ذاك الخيار الجدلي بتقييد الفائدة على الودائع، مع علمه بمخاطره على النظام المصرفي الذي بناه منذ التسعينات؟
التفسير المهذب أن هذا التدبير يجعل سيولة البنوك تكفي لمدة أطول. والتعبير الصريح أن البنوك تصادر شيئا من فوائد المودعين لإنقاذ ميزانياتها من الإفلاس، بتغطية من مصرف لبنان. وذاك غير ممكن عمليا إلا بوضع اليد على الودائع كلها ومنع أصحابها من الوصول إليها.
أتى ذلك ضمن مسار من الإجراءات التى هدمت الثقة بالقطاع، وأدت إلى تهافت الناس على سحب أموالها. وزادت الأمور سوءا بممارسة البنوك لقيود غير أخلاقية على الأموال التي يتلقاها المواطنون من أقاربهم أو أرباب عملهم في الخارج. تلك القيود لا مبرر اقتصاديا لها، بل يصح وصفها بالسطو المنظم على التحويلات.
كان من الطبيعي بعد سلوك هذا المسار الخطر أن تتآكل سيولة البنوك وملاءتها الرأسمالية. وبدلا من اتخاذ إجراءات سريعة لرسملة البنوك وتعزيز الثقة، هرب الجميع إلى الأمام، وامتدت الأيدي إلى فوائد الودائع، فكانت النتيجة بدء الوكالات العالمية بتصنيف البنوك اللبنانية في حالة التعثر.
الأسابيع المقبلة تنذر بالأسوأ. ثمة سباق مخيف بين رسملة البنوك وانهيار تصنيفاتها. ويدرك مصرف لبنان أن انهيار بنك واحد كبير أو متوسط الحجم سيكون كفيلا بإطلاق شرارة أزمة عاصفة، على نحو ما فعله انهيار “ليمان براذزرز” في الولايات المتحدة.
في أميركا وأوروبا تدخلت الحكومات لإنقاذ البنوك في العامين 2008 و2009 من خلال ضخ أموال جديدة في رؤوس الأموال، لكنها حصلت في مقابل ذلك على أسهم في البنوك وعزلت مجالس الإدارات والإدارات التنفيذية. كانت عملية تأميم صريحة.
لبنان هو الدولة الوحيدة التي أنقذت البنوك بلا مقابل تم الأمر من خلال تسليفات سرية من مصرف لبنان للبنوك بفائدة منخفضة تم توظيفها لدى مصرف لبنان بفوائد خرافية
وفي الكويت حصل أمر مشابه حين تعثر بنك الخليج أواخر عام 2008. تدخلت الدولة من خلال الهيئة العامة للاستثمار، وضخت أكثر من 411 مليون دولار مقابل أسهم تعادل 16% من رأس المال، لكنها في مقابل هذا الإنقاذ عزلت مجلس الإدارة وعينت رئيسا تنفيذيا من قبلها. وقبل أشهر قليلة فقط باعت الهيئة هذه الحصة، محققة أرباحا من الاستثمار تقارب 160 مليون دولار على مدى عشر سنوات.
لبنان هو الدولة الوحيدة التي أنقذت البنوك بلا مقابل. تم الأمر من خلال تسليفات سرية من مصرف لبنان للبنوك بفائدة منخفضة تم توظيفها لدى مصرف لبنان بفوائد خرافية، أو عبر هندسات مالية حققت للبنوك أرباحا هائلة من المال العام.
هذه المرة، لم يعد لدى مصرف لبنان ما يعين به البنوك، فطلب من مساهميها ضخ أكثر من 3.7 مليار دولار لتعزيز ملاءتها وقواعدها الرأسمالية. ونصف هذا المبلغ يفترض أن يسدد في الأيام المتبقية من العام 2019. قد يخفف ذلك شيئا من الضغوط الهائلة على القطاع إذا تم في موعده. لكن ماذا إذا تمنّع المساهمون أو بعضهم على الأقل، وهو المتوقع؟ بماذا يستعد مصرف لبنان؟ هل من طريقة لديه لاسترداد المليارات التي أنقذ بها البنوك مرات ومرات منذ العام 2013 حتى اليوم؟
حصل مساهمو البنوك على مليارات الإنقاذ من المال العام بلا مقابل. لكن سيكون من الإجرام، في عهد الثورة، أن تمتد الأيدي إلى أموال المودعين لإنقاذ البنوك، بعد أن نفد المال العام!
[PHOTO]