الحريري التائه: المقامات قبل الكرامات

مدة القراءة 5 د


وكأنّ الرئيس سعد الحريري يشكو نفسه لنفسه. لم يعد تخبطّ الرجل مفهوماً، إلا إذا كان يستعين بمستشارين، كلّ واحد منهم ينتمي إلى فريق سياسي على الضفة المقابلة للمستشار الآخر. فهو يطلق الموقف ويناقض نفسه بعد “سويعات”. في البيانين اللذين أصدرهما الحريري وتيار المستقبل، يظهر الرجل على تناقضاته الجلّية. يقول أحد البيانين إنّ رئاسة الحكومة “لن تكون طابة تتقاذفها القوى السياسية” لكن في الحقيقة هو من حوّل موقع رئاسة الحكومة إلى كرّة، تفتقد لقيمة المقام وهيبة الإحترام.

لوجدان السنّي كان يعلم أنّ هذه الحكومة ليست حكومة الحريري بل حكومة جبران باسيل وهو حوّل موقع الرئاسة فيها إلى باش كاتب

مساره طويل مع إهانة الموقع، وإهانة الكرامات قبل المقامات. هو الذي جعل موقع رئاسة الحكومة مجردّاً من الصلاحيات على حساب توافق ثنائي وإدارة هزيلة لأم المؤسسات أيام الغرام والوئام مع رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ. وتلك الإهانات التي سكت عنها، أو لم يردّ عليها، هي التي انفجرت بوجهه بعيد انفجار إنتفاضة اللبنانيين في 17 تشرين. وهو في الحقيقة، لم يستقل استجابة لطلب الناس ودوافعهم. إستقالته مختلفة الأسباب تماماً، وناجمة عن شعوره بالخوف، لأنّ ما تبدّى أمام ناظريه وأخافه، كانت التظاهرات والتحركات الهائلة في المدن والمناطق السنية المطالبة باستقالة الحكومة. لأنّ الوجدان السنّي كان يعلم أنّ هذه الحكومة ليست حكومة الحريري بل حكومة جبران باسيل، وهو حوّل موقع الرئاسة فيها إلى باش كاتب.

الخوف من المزاج السنّي دفعه إلى الإستقالة، ظنّاً أنّه يستطيع ملاطفة الشارع لاستعادة مكانة قد فقدها وخسرها في نفوس بيئته وجمهوره، فحاول استردادها بادعاء الإستقالة وتحريك جزء من الشارع. لكنّها ما لبثت أن انقلبت عليه.

ويوم استقال، كان يفكّر في كيفية العودة، متمنياً بعد سباتٍ عميق، أن تعيده الإحتجاجات على الأرض رقماً صعباً في نفوس جمهوره. غاب عن باله أنّ الناس لا تقتنع بهذه السهولة ولا يمكن الإستهزاء بعقولها بهذا الشكل. فما إن اكتشفوا أنّه ما خرج إلا ليعود، حتّى تحركت التظاهرات إلى أمام بيته رافضة لتكليفه. وليست تحركات أبناء الشمال والبقاع وبيروت وصيدا ليل الأحد رفضاً للإستشارات إلا أصدق التعبيرات عن رفض عودته، وهذا ما لا يريد الإقتناع به.

حوّل موقع رئاسة الحكومة إلى طابة. بمجرد ارتضائه الذهاب إلى رئيس الجمهورية بعد استقالته، والدخول في مفاوضات معه، للبحث عن صيغة جديدة. هو بذلك ضرب الدستور وصلاحيات “الرئيس المكلف”، لأنّه ذهب للبحث في التأليف والتكليف قبل الدعوة إلى الإستشارات. واستمّر قذف “الطابة” عندما دخل في لعبة طرح الأسماء والموافقة عليها وفي مفاوضات حول شكل الحكومة التي سيخرج بها أي إسم طُرح ليتكلف بتشكيلها.

ظنّ الرجل أنّه يتلاعب بالآخرين، ويناور وسيكسب في النهاية، بينما النتيجة كانت تهشيم الموقع وتهميش صلاحياته لغايات “فردانية وأنانية”.

أوقع نفسه في أفخاخ طروحاته، فخالف سبب إستقالته عندما وافق على محمد الصفدي، المرفوض من الشارع والذي يمثل جزءاً من الطبقة الحاكمة. أحرقه وأحرق معه رمزية الموقع في المعادلة. والأمر نفسه استمّر حين أيّد سمير الخطيب. إذ سمح لضابط أمني ووزير بأن يحدّدا رئيس الحكومة، وللوزير أن يفرض الشروط عليه ويرسم تشكيلاته وأن يوزّع الحصص فيها. والضربة الأكبر وجّهها الرجل بنفسه ليس إلى نفسه ولا إلى رئاسة الحكومة فقط، بل قد أهان الطائفة كلها، ودار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقين، وجمهوراً عريضاً يمتد على مساحة الوطن، عندما خرج سمير الخطيب من دار الفتوى معلناً موقف الدار المتمسك بالحريري رئيساً للحكومة، وبأن الدار ترفض إجراء مشاورات التأليف قبل التكليف، كما ترفض منطق تأجيل الإستشارت لإختيار الرئيس المكلف بطريقة معلبة.

هو لا يزال يتمسك بالعودة إلى تشكيل الحكومة رافضاً التنازل بأي شكل

ما إن انسحب الخطيب، وعاد الحريري إلى الواجهة، حتى داس على كل ما له علاقة بموقع دار الفتوى ورمزيتها وكرامتها. إذ سارع إلى الدخول في مفاوضات على شكل الحكومة، وطلب بنفسه تأجيل الإستشارات بينما سابقاً كان يعارضه ويطالب بإجرائها سريعاً، وذهب إلى عون سراً للبحث في شكل الحكومة وتوزيعاتها.

وناقض نفسه أكثر، عندما أعلن في بيانه أنّه ليس بحاجة إلى أصوات القوات اللبنانية والتيار الوطني، لكنّه عملياً طلب تأجيل الإستشارات بسبب عدم منحه أصواتهم. وهو لا يزال يتمسك بالعودة إلى تشكيل الحكومة، رافضاً التنازل بأي شكل، حتى وصل به الأمر إلى الذهاب نحو رئيس مجلس النواب لمطالبته بتدبير أمره بحثاً عن توفير الظروف لعودته، عبر استجداء الأصوات المسيحية، أو قبول التكليف بنفس نتيجة يوم الإثنين لو حصلت الإستشارات.

على ما يبدو بالنسبة إليه، القاعدة معكوسة. فهو لا يشكو نفسه فقط، بل إنّ المقامات أبدى من الكرامات لديه، وهذه مشكلته ومشكلة طائفة محبطة لا يمكن لها أن تستمّر هكذا.

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…