لم يكن مستغرباً أن تصل المواجهة بين وزير الدفاع الياس بو صعب وقائد الجيش العماد جوزف عون الى هذا الحد من التأزم. جبل من التراكمات والمآخذ كان لا بد أن ينفجر في مكان ما. رغم النهاية غير السعيدة التي رست عليها علاقة التعاون بين عون ووزير الدفاع السابق يعقوب الصراف، فإن كثيرين في اليرزة باتوا اليوم يترحّمون في عهد بو صعب على “أيام الصراف”!
لم تكن مثمرة بالتأكيد تجربة التعاون بين قائد الجيش ووزير الدفاع السابق، حامل البطاقة الحزبية “العونية”. مشكلة محافظ بيروت الاسبق انحصرت تقريباً في علّة واحدة: عقلية إصلاحية جامدة وأداء “على المسطرة” وتشبّث بالرأي من باب الحرص الشديد. هذا الذي تحوّل نقمة على المؤسسة العسكرية بدل أن يكون نعمة. فإدارة الجيش تحتاج الى ليونة وبراغماتية أكبر، وسرعة في تسيير المعاملات، مع خط أحمر سميك رسمه قائد الجيش بوجه كل ما يمكن أن يصنّف “فساداً” داخل الجيش، من ربطة الخبز… وصولاً حتى تطويع الضباط مروراً بملفات الإدارة العامة.
مع تعيين بو صعب وزيراً للدفاع إنتقلت المواجهة إلى مستوى أكثر تعقيداً. النائب المتني الذي يهوى الإستعراضات الإعلامية تحوّل إلى “بلاطة” على صدر قيادة الجيش لأكثر من سبب. ووصل الأمر إلى حدّ الانقطاع عن الزيارات المتبادلة ونقل الخلاف إلى طاولة رئيس الجمهورية. حصل هذا بعدما تجاوز وزير الدفاع دوره الفاصل ومدّ يده على صلاحيات قيادة الجيش وراح يتدخل في شؤونها. وقد ترجم هذا الأمر على أكثر من مستوى، بما في ذلك إطلاق وزير الدفاع مواقف علنية أو في الكواليس لا تصبّ لصالح المؤسسة العسكرية وضباطها!
[START2]النائب المتني الذي يهوى الإستعراضات الإعلامية تحوّل إلى “بلاطة” على صدر قيادة الجيش [END2]
في خلفية هذا المشهد واقع يصعب تجاوزه. لن يكون سهلاً على أي قائد جيش أن يمارس مهامه كما يجب في ظلّ قائد جيش سابق أصبح رئيساً للجمهورية هو ميشال عون وإلى يمينه الوزير جبران باسيل الذي حاول ولا يزال أن يترك “بصمته” داخل اليرزة وهو يوحي كما يقول العارفون، أنّ بعض الضباط هم “خاصّ ناصّ”، أو “ضباطه” داخل المؤسسة.
لا غبار على العلاقة بين عون وعون. رئيس الجمهورية يثق بشكل كبير، ولا يزال، بقائد الجيش وأطلق يده، لكن تأثيرات “حاشية القصر” أثّرت سلباً على منحى العلاقة، خصوصاً في ظل معركة حقوق العسكر إبان إقرار الموازنة، والانتفاضة الشعبية والجيش خلال مرحلة إقفال الطرق، وملف المراسيم التطبيقة (تتناول في جزء كبير منها صلاحيات قائد الجيش) التي لا تزال على طاولة المجلس العسكري ولم يُفرج عنها بعد، وملف نتائج ضباط الحربية الذين قدّمت ترشيحاتهم من العسكريين.
مع ذلك، بقيت العلاقة “شفافة ونظيفة” بين “الجنرالين” في مقابل توتر الأجواء بين قيادة الجيش ووزيري الدفاع والخارجية. فحين سُئِل ميشال عون خلال مقابلته التلفزيونية الأخيرة عن علاقته بقائد الجيش ومدى تأثّرها بالأحداث المتلاحقة أجاب بحزم: “هذا سؤال لا يُسأل”.
ربما توقّع ميشال عون حزماً أكبر من قائد الجيش في فتح الطرق، لكنّه تفهّم جدّياً متطلبات الأرض وخطوطها الحمر، وربما توقع ليونة أكبر من الجيش حول الحسومات التي طالت مستّحقات العسكر في الموازنة. مع ذلك فإنّ رَئيس الجمهورية الذي سبق له أن أوكل إلى جوزف عون مهمة “إحداث نفضة في الجيش وترشيقه”، ورغم كل الاحداث، لم يتغيّر اقتناعه بأنّ عون هو قائد المرحلة والأكثر كفاءة لهذه المهمة، فبقيت الثقة قائمة.
واقع لم يمنع من وقوع المحظور. فسريعاً جداً ساءت العلاقة مع باسيل وبو صعب، ووصل الامر الى فتح هواء “إذاعة صوت المدى” المملوكة لوزير الدفاع ضدّ قائد الجيش في عزّ فورة إقفال الطرقات. ووردت معلومات عن دور قريبين من باسيل في توزيع صورة قائد الجيش إلى جانب العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري في واشنطن، بعد عودته إلى لبنان في محاولة للإيحاء بأنّ هناك معرفة مسبقة بينهما. إضافة إلى التصويب على مساعده الشخصي، والتسريبات المتكررة عن وجود نيّة في تغيير قائد الجيش المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، وتغيير مدير المخابرات، ومحاولة إيحاء باسيل بأنّ بعض ضباط المؤسسة همّ من “جماعته”. كما رسّخت حادثة قبرشون الشرخ في العلاقة بين الطرفين، ما دفع باسيل إلى المجاهرة بالقول: “من واجب الجيش يحمينا” … وبو صعب عملياً، وفق مطلعين، كان ممثل باسيل الشخصي في وزارة الدفاع ويأتمر بتوجيهاته، ويمكن البناء على هذا الواقع لاستنتاج الخلاصة.
[START2]معلومات عن دور قريبين من باسيل في توزيع صورة قائد الجيش إلى جانب العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري في واشنطن[END2]
يؤكد هؤلاء أنّ إقرار المراسيم التطبيقية لقانون الدفاع وهي عالقة منذ 30 عاماً، صار أولوية باسيل خصوصاً أن بتّها يعني بشكل مباشر تقييداً لصلاحيات قائد الجيش. مع العلم أنّ كافة قادة الجيش السابقين استفادوا من النقص والغموض في الاجراءات التنفيذية وضمن قانون الدفاع، في معرض ترسيم العلاقة مع الوزير الوصي.
وتمنّع المجلس العسكري عن ارسال المراسيم إلى مكتب الوزير دفع الأخير إلى رفضه توقيع بريد الجيش، بما في ذلك التوقيع على معاملات تسلّم المازوت. وتشعّب الخلاف ليطال لاحقاً أكثر من ملف بينها المعابر الحدودية ومعابر التهريب. وقد ذهب وزير الدفاع بعيداً في منحاه “الاستعراضي” هنا، إضافة إلى تغييب الأخير عن استحقاقات عدّة مرتبطة مباشرة بصلاحيات قائد الجيش والمجلس العسكري…