أقرأ الجرائد في صورة يومية مُذ كان عمري 11 عاماً، وفي مرحلة طويلة من حياتي كانت متعتي أنني أقرأها قبل الصدور، وسواء قرأت الأخبار أو كتبتها أحفظها في ذهني مهما تقادم الزمن خلافاً لنسياني تفاصيل شؤون الحياة العادية.
ما لا أنساه وتعيده بقوة إلى سطح ذاكرتي أحداث هذه الأيام الكئيبة في منتصف هذا العهد المحزن، أن الرئيس الياس سركيس عندما انتهى عهده سنة 1982 كان سعر الدولار الأميركي ليرتين و75 قرشاً، وما كان كثيرون سمعوا بالدولار أو رأوه في لبنان. ومع تلاحق الحروب في النصف الأول من الثمانينيات صرنا نعرف أن الدولار يصعد والليرة تهبط تدريجاً، ولكن بحدود وعلى مهل. وكان سقف الخمس ليرات عالياً جداً، أشبه بحاجز معنوي، أحدث خرقه دوياً كخرق جدار الصوت والمدافع التي لم تكن تهدأ في تلك المرحلة السوداء من تاريخ البلاد وشعبها المعذّبين. لكأن الدولار اليوم قفز فوق الخمسة آلاف.
مع تلاحق الحروب في النصف الأول من الثمانينيات صرنا نعرف أن الدولار يصعد والليرة تهبط تدريجاً
الناس غير المصدقين، المذهولون، اعتقدوا أن فقدان عملتهم الوطنية ومدخراتهم نصف قيمتها هو القعر والحد الأقصى للانهيار، لكن الدولار ما لبث أن واصل صعوده. ست ليرات، سبع ليرات. عشر ليرات… ويُروى أن الرئيس كميل شمعون وكان وزيراً للمال في حكومة الرئيس رشيد كرامي قال لبعض القريبين منه “خمسونكم بدولار”. وكانت نبوءته راعبة، مثل كلام النائب ميشال معوض المتسرب من جلسة خاصة على مجاعة الحرب العالمية الأولى في لبنان وحوله.
تلك الأيام، منتصف الثمانينيات أيضاً، أذكر مقالة للأستاذ راجح الخوري في جريدة “العمل”، جاء فيه أن راتبه صار أقل من راتب خادمة منزل، لا يقل من مئة دولار.
لم تتنظم فرق إغاثة للفقراء المهدّدين في قوتهم، خلال حرب لبنان الثمانينيات كما في “حرب الأربَتعش”، بل تنظّمت ميليشيات أحسنت تدبير مصادر لتمويلها وكانت ملجاً لمن يعجز عن إيجاد الحدّ الأدنى من وسائل البقاء قيد الحياة. مَن لم يعمل في الإعلام أو الإدارة ولا يعرف مهنة كان يمكنه حمل السلاح والحصول أقله على راتب. وفي ما كان يُسمّى “المنطقة الشرقية” أنشأ سمير جعجع “مؤسسة التضامن الاجتماعي” للعناية بذوي الأحوال الرقيقة وإن لم يكونوا من “القوات”. مَن سيهتم بالفقراء والمساكين غداً إذا تشبث أهل الحكم والعهد بغيبوبتهم وإنكار الواقع؟
لا أحض على التشاؤم، ولكن أداء المسؤولين دفعني إلى التفتيش في مكتبتي عن كتاب قيّم للدكتور عصام خليفة نشره أخيراً وعنوانه “مقاومة أهوال المجاعة 1916- 1918″، أعدت فيه قراءة عبارات عالقة في ذهني للخوري بولس عقل (أدى دوراً كبيراً لاحقاً كمطران قريب من البطريرك إلياس الحويك)، كتبها في رسالة إلى أهله في قرية شامات ببلاد جبيل بتاريخ 10 أيلول 1914، قبل نحو سبعة أسابيع من دخول الدولة العثمانية الحرب، جاء فيها: “البيع البيع البيع. مهما تيسّر لكم لتبيعوه بيعوه حالاً دون تأخير لأن الظروف عاطلة جداً، وقادمون على ضيق شديد لا نعلم ماذا يكون لنا، وما تكون حالة الأملاك التي ربما لا تعود تساوي شيئاً مطلقاً. ورغماً عن الحاجة القصوى للمال، فالعاقل يغتنم الفرصة ويبيع ولو بنصف القيمة. فتدبّروا واسمعوا لنصائحي لأنّي مطلع على الحقائق وعارف بالأحوال. العسر المالي في كل الدنيا، والأزمة تشتد من يوم إلى آخر والحرب على الأبواب. الله يعين”.
مئة عام وأكثر، كأنها يوم أمس الذي عَبَر. كأنها غداً.