تعيش الثورة في لبنان منذ انطلاقها في 17 تشرين الأول الفائت أزمة توصيف، أول من وقع ضحيتها وسائل الاعلام ورواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين خاضوا مجتميعن لعبة تراشق في المصطلحات بلا تمييز. بداية كانت التحركات في شكل تظاهرات غاضبة، وسرعان ما تحوّلت بعد سقوط الحكومة الى ما يشبه الثورة لأنها ما انفكّت تطالب بالمزيد. همدت التحركات لأيام بعيد سقوط الحكومة، وظن البعض أن هذه حدودها، إلا أنها عادت واستأنفت نشاطها وتطوّرت منذ منع القوى الأمنية والجيش المتظاهرين من قطع الطرقات.
في حينه، سأل كثيرون، خصوصا مناصرو السلطة: “من يحرك هذه الثورة؟” و”من هم ممثلوها؟” فلم يُوفقوا بالتعرف إليهم لأن لا وجود لهم بكل بساطة. ولأن في العصر الحديث، باتت أغلب الثورات بلا قيادة، فالفعل (فعل المجموعة) هو الذي يتكلم، ولا ضرورة بأن تكون الثورة مسبوقة بارهاصات فلسفية أو بتغيرات قِيَميّة مثلما حصل إبان الثورة الفرنسية (1789 – 1799)، بل يكفي أن يكون التوجه نحو تغيير جوهر النظام قائماً.
الثورة تهدف، بالضرورة، إلى تعديل الدستور أو تغييره كلياً أو الانقلاب على المفاهيم التي حكمت طريقة تفسيره وتطبيق بنوده، من خلال تغيير الطبقة الحاكمة التي أثبتت فشلها. ويجوز القول أن الشعب يريد أخذ زمام المبادرة من خلال سحب توكيله من ممثليه، لأنه اختار أن يفرض عقداً اجتماعياً جديداً مع ممثلين آخرين. وهذا العقد فيه طرفان دوماً:
1.السلطة: تقدم الخدمات وتسهر على الانتظام العام.
2.الشعب: يذعن للقوانين بمقابل التخلي عن جزء من سيادته بموجب توكيل ترسمه الانتخابات.
حينما تُخلّ السلطة باتفاق تقديم الخدمات (الطبابة، الكهرباء، الماء، التعليم، الأمن… إلخ) وتنتهك الانتظام العام وتستبيح القانون وتمتنع عن فرض العدالة بين المواطنين، لا يعود المواطنون ملزمين بالاذعان لسلطانها، وتصير مصلحتهم تقتضي باستعادة الوكالة لإعادة تركيب سلطة أخرى. وهم يختارون تفاصيل العقد الجديد معها. ولأنّ السلطة القديمة القائمة قد تجذرت في مؤسسات الدولة، وصارت تظن أن شرعيتها تُستمد من قوتها ومصالحها وعلاقاتها الاستراتيجية، يُضحى من الصعب إبعادها عن الحكم إلا بواسطة العنف والدمّ. وهل يصوت الديك الرومي لمصلحة عيد الشكر؟ حتماً لا!
حينما هاجم الثوار الفرنسيون في صيف 1789 سجن الباستيل الذي كان رمزاً للطغيان، ووقع بقبضتهم فأعتقوا رقاب المعتقلين، دخل مستشار الملك لويس السادس عشر عليه وقال له: “سقط سجن الباستيل يا مولاي!” رد الملك لويس: “هي انتفاضة”، مقللا من قيمة ما حصل لينأى بعرشه، قال له المستشار: “كلا… انها الثورة يا مولاي”، منذراً إياه بأنّ الهدف هو الاطاحة به تمهيداً لتغيير النظام وليس استبداله بملك آخر. لهذا تعني الثورة بالتعريف الدستوري البسيط أنها تغيير جوهري لنظام الحكم الذي يختلف عن الانقلاب الذي غالباً ينتهي بتغيير رأس السلطة.
عبارة مستشار الملك لويس الشهيرة (إنها الثورة يا مولاي) صارت مع الوقت رمزاً عالمياً بعد الثورة الفرنسية التي أطاحت فعلاً بالملكية (أُعدم لويس السادس عشر بعد أربع سنوات من بداية الثورة) وأسست للجمهورية القائمة على الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعدالة والمساواة. ومذاك باتت الثورات، بعمقها الفلسفي، تعني القيم والحرية والاخلاق والنظرة الى الكون عموماً، وترتبط وظيفياً بتغيير وجهة نظر الإنسان في الحياة ككل، وفي القيم التي تحكم نمط عيشه.
نظرياً، يمكن القول إنّ ثمة فارق كبير بين مصطلح “الثورة” وكل ما هو خلافه. فالثورة ليست اعتصاماً ولا تظاهرة ولا إضراباً، وانما هي كل ما سبق ذكره وأكثر. صحيح أنّ المصطلحات تتشابه لكن التعريف العلمي يختلف بين مصطلح وآخر. وتُعدّ التظاهرة حركة مطلبية لتحقيق أمر محدد أو لإلغائه (قرار وزاري، مطلب معيشي… الخ). إذ تحقّق هذا المطلب انكفأ المتظاهرون وعادوا أدراجهم. إضراب عمال النقل مثلاً دام 3 أيام، ثم في اليوم الرابع تحقق المطلب فعاد العمال الى عملهم في اليوم الخامس. أحياناً ترفض السلطة السياسية تحقيق المطلب فيذعن المتظاهرون وينتهي الاعتراض، وهذا ينسحب على الاعتصام. لكن إذا ترافقت التظاهرات مع مقاومة لقرارات السلطة وطال أمدها ومُزجت بالدمّ، نصير أمام مصطلح جديد، ونكون قد دخلنا في “العصيان”.
أما العصيان فهو التمرد على أوامر السلطة ويأخذ غالباً شكل الرفض في دفع الضرائب والرسوم والامتثال لقوانين السلطة ككل، فنكون بذلك قد دخلنا في مشروع أقرب إلى ما يُسمى “الثورة”.
إذن، الثورة التي نعيشها في لبنان بعد قرابة الشهر هي ثورة حقيقية، وليست اعتصاماً ولا تظاهرات. ثورة ترمي إلى سحب وكالتها من الممثلين لتغييرهم وتعديل منظومة القيم السياسية، ولا ينقصها حتى اللحظة إلا مقاومة السلطان من خلال عصيان مدني قد يعبّد الطريق نحو تغيير قد يطول سنوات… هكذا تخبرنا صيرورة الثورات في العالم.