لم يعُد ما تفعله إسرائيل في محيط مصر تحرّكات تكتيكيّة أو مغامرات دبلوماسيّة عابرة. فباعترافها الرسميّ بالكيان الانفصاليّ المسمّى “أرض الصومال”، تكون تل أبيب قد فتحت حلقة جديدة من زنّار النار والحصار الاستراتيجيّ المفروض على مصر، ودفعت بالصراع من تخوم السياسة إلى قلب الجغرافيا والأمن القوميّ.
لا تتّصل القضيّة فقط بالتدخّل في الشأن الداخليّ لدولة عربيّة إفريقيّة ذات سيادة، بل تمثّل إعلاناً صريحاً لإطلاق مسار إسرائيليّ منظّم للعبث بالخرائط، كسر مبدأ وحدة الأراضي، وإعادة هندسة المجال الحيويّ العربيّ، من غزّة إلى ليبيا، ومن السودان إلى سدّ النهضة، وصولاً إلى باب المندب والبحر الأحمر.
ما يجري حول مصر لم يعد سلسلة أزمات منفصلة، بل مشروع متكامل لتطويقها: خنق مائيّ من الجنوب، ضغط بحريّ من الشرق، واستنزاف أمنيّ من الغرب. لا يكمن الخطر الحقيقيّ في حدث بعينه، بل في تراكم الوقائع، وضوح الأهداف، تكامل أدوار اللاعبين وغياب ردع عربيّ فعليّ.
لا تتّصل القضيّة فقط بالتدخّل في الشأن الداخليّ لدولة عربيّة إفريقيّة ذات سيادة، بل تمثّل إعلاناً صريحاً لإطلاق مسار إسرائيليّ منظّم للعبث بالخرائط
موقع استراتيجيّ وساحة جذب
الصومال ضحيّة من ضحايا التفتيت الاستعماريّ. علمه الأزرق اللون تتوسّطه نجمة خماسيّة ترمز إلى حلم الصوماليّين بالعودة إلى “الصومال الكبير” الذي مزّقه الاستعمار إلى خمسة أجزاء عقب مؤتمر برلين بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. فقد سيطرت إيطاليا على الصومال الجنوبيّ وعاصمته مقديشو، وبريطانيا على الصومال الشماليّ “أرض الصومال” وعاصمته هرغيسا، وفرنسا على شريط جيبوتي الذي صار لاحقاً دولة مستقلّة، علاوة على إقليم أوغادين الصوماليّ الذي ابتلعته إثيوبيا، والأجزاء التي ضُمّت إلى كينيا.
في نهاية حقبة الاستعمار عام 1960، أعلن الصومال الشماليّ استقلاله بعد خروج بريطانيا، فيما نال الصومال الجنوبيّ استقلاله في العام ذاته من إيطاليا باسم “جمهورية الصومال”. وعلى الأثر، اتّفق زعماء الشطرين على الوحدة لتكوين دولة واحدة عاصمتها مقديشو. غير أنّ هذه الوحدة لم تدُم طويلاً، إذ أدّت سياسات الرئيس محمد سياد بري إلى فوضى شاملة انتهت بحرب أهليّة أطاحت كيان الدولة، ودَفعت بإقليم “أرض الصومال” في الشمال إلى الانفصال عن مقديشو من دون أن يحظى بأيّ اعتراف دوليّ، على الرغم من الاستقرار النسبيّ فيه، نظراً لانتماء غالبيّة سكّانه إلى قبيلة إسحق، على عكس بقيّة البلاد التي استعرت فيها الحروب القبليّة وما تزال.
غير أنّ الموقع الاستراتيجيّ للإقليم الشماليّ المطلّ على خليج عدن وباب المندب وامتلاكه ميناء بربرة الكبير جعلاه ساحة جذب للاستقطاب الدوليّ والإقليميّ، في ظلّ تنافس على أمن الملاحة والطاقة وحركة التجارة العالميّة والصيد البحريّ، ولا سيما مع تصاعد خطر الحوثيّين في البحر الأحمر وخليج عدن، وقبل ذلك تنامي خطر القرصنة الصوماليّة.
الصومال ضحيّة من ضحايا التفتيت الاستعماريّ. علمه الأزرق اللون تتوسّطه نجمة خماسيّة ترمز إلى حلم الصوماليّين بالعودة إلى “الصومال الكبير”
تغيير هويّة “بحر العرب”؟
في هذا السياق، لم يكن الاتّفاق الإثيوبيّ–الصوماليّ مطلع العام الماضي حدثاً معزولاً، حين استأجرت أديس أبابا شريطاً ساحليّاً في بربرة لمدّة نصف قرن. قرأت القاهرة الخطوة بدقّة ورأت فيها محاولة لكسر الجغرافيا وخلق “سدّ نهضة بحريّ” يُكمل الضغط المائيّ على مصر، ويؤسّس لنفوذ إثيوبيّ ممتدّ إلى خاصرة البحر الأحمر، بدعم إسرائيليّ غير معلن.
لكنّ الأخطر لا يكمن في الخطوة الإثيوبيّة وحدها، بل في تراكمها مع اندفاعة إسرائيليّة أوسع نحو البحر الأحمر الذي سمّاه الجغرافيّون “بحر العرب”، وهي اندفاعة ليست جديدة في العقيدة الأمنيّة الإسرائيليّة. فمنذ احتلال أمّ الرشراش عام 1949 وتحويلها إلى “إيلات”، تعمل إسرائيل على كسر الطوق العربيّ عليها وتوسيع مجالها الحيويّ جنوباً عبر قواعد وتسهيلات واتّفاقات مع دول القرن الإفريقيّ، وصولاً إلى مضيق باب المندب. ويأتي الاعتراف بـ”أرض الصومال” امتداداً طبيعيّاً لهذه العقيدة: كيان هشّ خارج الشرعيّة الدوليّة، قابل للتحوّل إلى منصّة عسكريّة واستخباريّة منخفضة الكلفة السياسيّة، مرتفعة القيمة الأمنيّة.
تزداد خطورة المشهد مع ما تسرّب عن ربط إسرائيليّ غير معلن بين الاعتراف وملفّ تهجير الفلسطينيّين من غزّة، وهو ما يحوّل “أرض الصومال” من نقطة ارتكاز بحريّة إلى جزء من هندسة ديمغرافيّة–أمنيّة إقليميّة تعيد فتح أخطر ملفّات الصراع العربيّ–الإسرائيليّ.
الدور الإماراتي
في قلب هذا المشهد، يبرز الدور الإماراتيّ كعامل مؤثّر لا يمكن تجاهله. فقد أسهمت استثمارات “موانئ دبي” في ميناء بربرة، إلى جانب الشراكة الأمنيّة والعسكريّة مع سلطات هرغيسا، في تكريس واقع انفصاليّ موازٍ للدولة الصوماليّة المركزيّة، ووفّرت بنية تحتيّة جاهزة لأيّ حضور دوليّ لاحق. وعلى الرغم من إعلان أبو ظبي دعمها لوحدة الصومال الفدراليّ، أسهمت الوقائع على الأرض في تعميق الانقسام وفتحت الباب أمام توظيف الميناء والمنطقة في صراعات النفوذ الإقليميّ والدوليّ.
الفراغ هو العدوّ الحقيقيّ. وحين يغيب العرب عن الصومال والسودان والبحر الأحمر، يحضر الآخرون بلا تردّد
خنق مصر مائيّاً وبحريّاً؟
تبقى مصر المعنيّ المباشَر الأوّل، فالبحر الأحمر ليس ممرّاً ملاحيّاً فحسب، بل عمق استراتيجيّ وجوديّ للأمن القوميّ المصريّ. ومن يظنّ أنّ التطويق يبدأ وينتهي عند سدّ النهضة يخطئ القراءة، إذ تستهدف المعادلة الإسرائيليّة–الإثيوبيّة خنق مصر مائيّاً من الجنوب، وبحريّاً من الشرق، في آن واحد، وتحويل البحر الأحمر من “بحر العرب” إلى ساحة نفوذ مفتوحة لقوى من خارج الإقليم.
قد يفتح الاعتراف الإسرائيليّ بـ”أرض الصومال” الباب أمام سيناريوات أخطر، بينها الاعتراف بكيانات جديدة في غرب السودان، وهو ما يجعل الدخول الإسرائيليّ إلى القرن الإفريقيّ خطوة محسوبة في استراتيجية قديمة–جديدة، هدفها تطويق مصر والعالم العربي من الجنوب، والتحكّم بالممرّات البحريّة الحيويّة، وفرض وقائع أمنيّة جديدة عند باب المندب والبحر الأحمر.
إقرأ أيضاً: “صومالي لاند”: نتنياهو يوسّع رقعة الابتزاز؟
الفراغ هو العدوّ الحقيقيّ
لم يعد المطلوب بيانات قلق ولا إدانات لفظيّة، بل موقف عربيّ صريح: لا شرعيّة لأيّ وجود عسكريّ إسرائيليّ على ضفاف البحر الأحمر، ولا تسامح مع تحويل القرن الإفريقيّ إلى منصّة تهديد دائم للأمن العربيّ. فالتطبيع السياسيّ، حيث وُجد، لا يمكن أن يتحوّل إلى تفويض أمنيّ يعبث بالجغرافيا ويعيد رسم الخرائط.
الفراغ هو العدوّ الحقيقيّ. وحين يغيب العرب عن الصومال والسودان والبحر الأحمر، يحضر الآخرون بلا تردّد. ما يجري اليوم اختبار قاسٍ: إمّا أن يُعاد الاعتبار للبحر الأحمر كفضاء عربيّ–إفريقيّ محميّ، أو يُترك ليتحوّل إلى ساحة نفوذ إسرائيليّ مفتوحة، تُدار من تل أبيب، وتُدفع كلفتها في القاهرة والعواصم العربيّة تباعاً.
هذه ليست معركة حدود، بل معركة وعي وإرادة. ومن لا يدرك خطورتها الآن، فسيدفع ثمنها حين يصبح التطويق واقعاً لا رجعة عنه.
