حين تتصدّر أخبار حدّاد سيّارات من وادي خالد عناوين الصحافة العربيّة والدوليّة، لأنّه نجح لبرهة في انتحال شخصيّة أمير سعوديّ وابتزاز البعض في نادي الطبقة السياسيّة، فإنّ السؤال لا يعود عن العناصر الشخصيّة التي سمحت بقصّة “النجاح”، إنّما عن أعطال المنظومة السياسيّة المصمَّمة بطريقة تجعل هذا النجاح ممكناً.
تقدّم قضيّة “أبو عمر” تشريحاً سريريّاً لمرضٍ بنيويّ في السياسة اللبنانيّة عامّةً، ومرآةً تعكس أزمة تضرب الطائفة السنّيّة تحديداً. هي شاهد على طبيعة العلاقة وتحوّلاتها بين لبنان وراعيه الإقليميّ منذ ثمانينيّات القرن الماضي.
لم يخترق “أبو عمر” النظام السياسيّ اللبنانيّ، بقدر ما أنّه استثمر في نظام تشغيله الأساسيّ. السياسة اللبنانيّة، منذ نشأة الكيان حتّى اللحظة، تعمل بنسب كبيرة وفق منطق الوساطة والوسطاء، الذين يدّعون عن حقٍّ أو عن باطل القرب من مركز القرار، سواء كان هذا المركز دمشق أو الرياض أو واشنطن.
لأنّ الطلب على الوساطة يفوق دائماً العرض الحقيقيّ منها، تنتج هذه البنية الوساطيّة حتماً ظاهرة “سماسرة النفوذ”. حين يتّسع الفارق بين الطلب والعرض، كما حدث في سنوات الغياب السعوديّ عن لبنان، تنشأ سوقٌ سوداء للوساطة المزيّفة، تماماً كما تنشأ سوق سوداء للدولار حين يتّسع الفارق بين السعر الرسميّ والسعر الحقيقيّ.
لو لم يكن هو لكان غيره
“أبو عمر”، بهذا المعنى، مجرّد تاجر في سوقٍ مفتوحة، بضاعته الوحيدة، وهْم القرب من الرياض. لو لم يكن هو، لكان غيره.
نجح الرجل في استثمار نهاية نموذج العلاقة السعوديّة- اللبنانيّة التي قامت على راعٍ واحد (رفيق الحريري) كان يحتكر قناة التواصل مع المملكة، ويُوزّع بركات رعايتها على أصحاب الحظّ.
صنع “أبو عمر” مشهداً ينطوي على كامل تفاصيل الأزمة البنيويّة التي تضرب التمثيل السياسيّ السنّيّ منذ سنوات. القيادة السنّيّة ارتبطت، تحديداً مع الشهيد رفيق الحريري، بالرعاية الخارجيّة أكثر من انبثاقها عن ديناميّات داخليّة.
“أبو عمر” مجرّد تاجر في سوقٍ مفتوحة، بضاعته الوحيدة، وهْم القرب من الرياض. لو لم يكن هو، لكان غيره
لم يبدأ الحريري الأب زعيماً شعبيّاً صعد من القاعدة. كان رجل أعمال نجح في السعوديّة، وعاد إلى لبنان حاملاً “تفويضاً” سعوديّاً ضمنيّاً، وشرعيّةً إقليميّة في الجوهر، بنى عليها بسبب خصاله الشخصيّة تجربة حكم استثنائيّة في تاريخ لبنان. حين انتقلت الزعامة المعمَّدة بالاستشهاد إلى سعد، انتقل معها التناقض العميق بين عظمة الشرعيّة المحليّة والأهليّة المكتسبة وهشاشة أنّها قيادة مرهونة في الأصل بالعلاقة مع الراعي الخارجيّ.

وعليه لم يخلق غياب الحريري مجرّد فراغ في موقع القيادة، لا سيما أنّ النهاية الدراماتيكيّة لهذه التجربة خلَّفت سنوات طويلة من الفراغ الرعويّ، بلا قنوات سياسيّة صلبة أو مرجعيّة تمثيليّة لبنانيّة معترف بها من الرياض ومن بيروت على حدٍّ سواء.
صار كلّ طامح سنّيّ يسعى نحو “تفويض سعوديّ” لا يعرف من أين يحصل عليه. القنوات السياسيّة مغلقة. العلاقات الشخصيّة مع القيادة السعوديّة الجديدة محدودة جداً. والحاجة إلى الشرعيّة الخارجيّة أكثر من ذي قبل.
ثمّة من فهم المعادلة ببراعة، وشغَّل “أبو عمر” ليكون مدخله إلى سوق الوهم السياسيّ، حيث سياسيّون متعطّشون لوراثة العلاقة بالرياض وسلطة الهمس في أذن القيادة السعوديّة. جلّ ما احتاج إليه كان رقم هاتف أجنبيّاً، ولهجة خليجيّة مُتقنة، وجملة سحريّة: “المملكة راضية عنكم”.
الوهم سدّ فراغاً حقيقيّاً. الأثمان المادّية التي دُفعت، ويُنتظر للتحقيقات أن تكشف حقيقتها، لم تكن ثمن الوصول إلى السعوديّة، بل كانت ثمن السعي اليائس إلى الوصول إليها بأيّ طريقة أخرى.
وإلّا فكيف نفسّر، بغير اليأس، أن يصدّق سياسيّون لبنانيّون رجلاً، لا يملك قصراً ولا موكباً ولا أوراقاً رسميّة ولا صورة واحدة تجمعه بأيّ مسؤول سعوديّ، وحصر تواصله معهم بالهاتف من دون أن يظهر وجهاً لوجه؟!
ثمّة حاجة ماسّة إلى التصديق بأنّ “أبو عمر” موجود، وحقيقيّ. السياسيّ اللبنانيّ لا يستطيع أن يتخيّل نفسه فاعلاً من دون راعٍ خارجيّ. هذه نتيجة نحو قرنين من التجربة التي رسّخت “ثقافة القناصل” وجعلت الجميع يتنافسون على النفوذ عبر الحمايات الأجنبيّة، لتأمين الترقّي الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
تقدّم قضيّة “أبو عمر” تشريحاً سريريّاً لمرضٍ بنيويّ في السياسة اللبنانيّة عامّةً، ومرآةً تعكس أزمة تضرب الطائفة السنّيّة تحديداً
الوجه الأكثر تعفّناً
“أبو عمر” هو الوجه الأكثر تعفّناً لهذه الاستمراريّة البنيويّة المذهلة، من دون مؤسّساتها الناظمة أو الإطار البيروقراطيّ الذي كان يضبط منطق الحماية الخارجيّة بين الفرنسيّين والبريطانيّين والروس والعثمانيّين. الرعاية الإقليميّة اليوم ضبابيّة، ولا أحد يعرف بالضبط كيف تُتّخذ القرارات في العواصم الإقليميّة بشأن لبنان.
ستهدأ موجة السخرية والتشفّي، ويبقى السؤال البنيويّ: ما الذي يمنع ظهور “أبو عمر” جديد؟
الإجابة المؤلمة: لا شيء.
العلّة ليست في المحتال، بل في البنية التي جعلت احتياله ممكناً. هذه البنية قائمة على مرتكزين ثابتَين لم يسقط أيّ منهما: هندسة النظام التعدّدي الذي يجعل كلّ طائفة بحاجة إلى “ضامن إقليميّ”، وضعف آليّات إنتاج الشرعيّة السياسيّة محليّاً وعدم القدرة على حمايتها بقوّة المؤسّسات والدستور.
إقرأ أيضاً: السّنكريّ الذي خدع رؤساء حكومة..
ليس “أبو عمر” إلّا عَارضاً من عوارض مرضٍ أعمق بكثير. ولطالما بقيت البنية الراهنة، سيظهر “أبو عمر” آخَر بهويّة مختلفة، ما لم يكن بيننا الآن أكثر من “أبو عمر” يعمل في الظلّ، بهويّات مختلفة وادّعاءات القرب من واشنطن أو باريس، أو أيّ مركز قوّة آخر.
في النهاية، لم يخدع “أبو عمر” السياسيّين اللبنانيّين، بقدر ما أعطاهم هو أو مشغّلوه ما أرادوا تصديقه. وفي هذا الفارق الدقيق، يكمن كلّ شيء.
لمتابعة الكاتب على X:
