في خطوة تُعدّ من أندر الخطوات التي قام بها منذ تولّيه سدّة الرئاسة الفلسطينيّة، أصدر الرئيس محمود عبّاس بياناً شخصيّاً في الرابع والعشرين من كانون الأوّل حمل رسائل مركّبة موجّهة إلى الداخل الفلسطينيّ، وبالأخصّ إلى حركة “فتح” وقياداتها، وإلى العواصم العربيّة والأوروبيّة والولايات المتّحدة.
يتركّز مضمون الرسائل على برنامج “الإصلاحات الشاملة” الذي شرعت السلطة الفلسطينيّة في تطبيقه خلال الشهور الماضية، وهو برنامج يحاول أن يعيد تشكيل عدد من ركائز النظامين الإداريّ والسياسيّ للسلطة الفلسطينيّة.
إنّ إصدار البيان باسم الرئيس شخصيّاً لم يكن تفصيلاً شكليّاً. بل يُفهم بوضوح أنّه إعلانٌ مباشر بأنّ عبّاس يتحمّل المسؤوليّة الكاملة عن القرارات المرتبطة ببرنامج الإصلاحات، بما في ذلك الملفّات الحسّاسة مثل رواتب الشهداء والأسرى والجرحى. يبدو أنّ الهدف الرئيس من ذلك هو احتواء “الحملة” المتصاعدة ضدّ مؤسّسة “تمكين” التي أُنيط بها تنفيذ الجزء الأكثر جدلاً في هذا البرنامج.
شهد الشارع الفلسطينيّ ارتفاعاً واضحاً في وتيرة الاحتجاجات ضدّ برنامج الإصلاحات، وتركّزت الاعتراضات على مؤسّسة “تمكين” التي أنشأها عبّاس بقانون، ووضع على رأسها عضو اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير والمقرّب منه سياسيّاً أحمد مجدلاني، لتتولّى صرف رواتب الشهداء والأسرى وفق أسس اجتماعيّة لا سياسيّة كما كان معمولاً به سابقاً.
المفارقة اللافتة أنّ جزءاً ملحوظاً من الانتقادات وُلد داخل البيت الفتحاويّ نفسه. إذ هاجم عضو اللجنة المركزيّة للحركة توفيق الطيراوي مؤسّسة “تمكين”، مطالباً بإبعادها عن هذا الملفّ الحسّاس. وشنّت هيئة شؤون الأسرى هجوماً شديد اللهجة عليها، ووصفت سلوكها بـ”العنجهيّة” ووصفت خطواتها بـ”الوقاحة غير المسبوقة”.
إصدار البيان باسم الرئيس شخصيّاً لم يكن تفصيلاً شكليّاً. بل يُفهم بوضوح أنّه إعلانٌ مباشر بأنّ عبّاس يتحمّل المسؤوليّة الكاملة عن القرارات المرتبطة ببرنامج الإصلاحات
احتجاجات في الشّارع
في الميدان، خرجت عائلات الشهداء والأسرى في مدن الضفّة الغربيّة في احتجاجات امتدّت على مدار يومين، اعتراضاً على قطع أو تقليص رواتبهم وفق النظام الجديد الذي بدأ تطبيقه يوم الأربعاء.
يُعرف أحمد مجدلاني، الأمين العامّ لجبهة النضال الشعبي، بقربه السياسيّ من الرئيس عبّاس، وهو ما ضمن له تولّي مناصب عليا داخل الحكومات المتعاقبة وفي مؤسّسات منظّمة التحرير. غير أنّ هذا القرب وحده لا يكفي لتمكينه من الصمود طويلاً في مواجهة هجوم من داخل “فتح”، لو قُدّر له أن يتواصل ويتصاعد.
لذا جاء البيان الرئاسيّ ليبدو كأنّه “مظلّة سياسيّة” واضحة، أوقف من خلالها عبّاس الحملة على “تمكين”، وأكّد أنّ المؤسّسة ليست صاحبة قرار بل جهة تنفيذيّة، وأن القرارات الكبرى مسؤوليّة الرئيس شخصيّاً.
شكّلت هذه الاحتجاجات اختباراً مبكراً لمدى قدرة برنامج الإصلاحات على الصمود أمام المعارضة الشعبيّة والسياسيّة. ربّما أدرك عبّاس مبكراً أنّ مواجهة هذه الموجة تتطلّب ردّاً مباشراً وقويّاً لتثبيت الانطباع بأنّ قطار الإصلاحات قد انطلق ولن يعود للخلف.
الرسالة الأساسيّة التي أراد إيصالها، وفق ما يُفهم من سياق قراراته الأخيرة، بما في ذلك التعيينات داخل السلطة ومنظّمة التحرير والسماح بمصالحة داخل “فتح”، هي أنّه بصدد بناء مرحلة سياسيّة جديدة مع نهاية عهده، مرحلة تتجاوب بالكامل مع الضغوط والشروط العربيّة والإقليميّة والدوليّة، بحيث يتمّ توريث هذا النظام لمن سيخلفه.
في الميدان، خرجت عائلات الشهداء والأسرى في مدن الضفّة الغربيّة في احتجاجات امتدّت على مدار يومين، اعتراضاً على قطع أو تقليص رواتبهم
أربعة ملفّات مثيرة للجدل
لكنّ هذه الإصلاحات لا تمرّ بهدوء. تتبلور المعارضة السياسيّة والشعبيّة تدريجاً، خاصّة بعد تطبيقها العمليّ. ويمكن رصد ذلك في أربعة ملفّات أساسيّة:
- أوّلاً: تعديل قانون الانتخابات: أضاف عبّاس شرطاً يُلزم أيّ مرشّح للانتخابات ببرنامج منظّمة التحرير والتزاماتها الدوليّة واتّفاقاتها. أثار هذا الشرط، الذي رآه كثيرون مسّاً مباشراً بجوهر التعدّديّة السياسيّة وروح العمليّة الانتخابيّة، معارضة واضحة من قوى يساريّة وديمقراطيّة ومؤسّسات مجتمع مدنيّ أعلنت بعضها مقاطعة الانتخابات المحلّيّة المرتقبة في نيسان المقبل.
- ثانياً: رواتب الأسرى والشهداء والجرحى: بعد سنوات من الضغط الإسرائيليّ والأميركيّ والأوروبيّ على السلطة لوقف هذه المدفوعات، تحوّل المعيار من “وطنيّ وسياسيّ” إلى “اجتماعيّ” يعتمد على تقويم الحاجة والفقر، وهو ما أدّى إلى وقف العديد من الرواتب وتقليص أخرى. تعدّ هذه الخطوة، التي جاءت عبر مؤسّسة “تمكين”، الأكثر حساسيّة وتأثيراً في الشارع.
- ثالثاً: تغيير المناهج التعليميّة: حتّى الآن لا يزال هذا الملفّ غامضاً إلى حدّ كبير، لكنّ التوقّعات تشير إلى أنّ أيّ تعديل يمسّ النصوص ذات البعد الوطنيّ سيولّد ردود فعل غاضبة، خاصّة إذا تبيّن أنّه جاء استجابة لضغوط خارجيّة تتّهم المناهج بالتحريض.
- رابعاً: تشكيل لجنة صياغة الدستور: أثار قرار تشكيل لجنة لصياغة دستور مؤقّت للانتقال من السلطة إلى الدولة اعتراضاً قانونيّاً واسعاً. فقد قُدّم طعن من “محامون من أجل العدالة” بعدم دستوريّة القرار، تبعه اعتقال الأمن الفلسطينيّ أحد مقدّمي الطعن، وهو الناشط مزيد سقف الحيط، وتوجيه تهم له أثارت موجة جدل أخرى تتعلّق بالحرّيّات.
استجابة للضّغوط الدّوليّة
لا يختلف كثيرون على أنّ “الإصلاحات” ليست وليدة إرادة ذاتيّة بقدر ما هي استجابة لضغوط عربيّة ودوليّة. ويخشى الفلسطينيّون، بناءً على تجاربهم السابقة، أنّ فتح هذا الباب لن تكون نهايته تنفيذ الشروط الحاليّة، بل سيشجّع إسرائيل على المطالبة بالمزيد.
إقرأ أيضاً: 2026 مفصليّة لسوريا والمنطقة؟
قال الكاتب والمحلّل السياسيّ عمر الغول في حديث لموقع “أساس” إنّ بيان الرئيس حمل رسالة واضحة لكلّ الفلسطينيّين، مواطنين وقوى سياسيّة ونخباً، بأنّه لا تخلّي عن الالتزام تجاه الشهداء والأسرى، لكن من خلال رؤية ماليّة وإداريّة جديدة تهدف بحسب السلطة إلى تنظيم الصرف وضمان العدالة.
يرى الغول أنّ هناك ضغوطاً هائلة تتعرّض لها السلطة، وأنّ الأصوات المعارضة يجب الإصغاء لها والتحاور معها لأنّ “الوجود الوطنيّ نفسه بات مهدّداً”. ويشير الغول إلى أنّ البرامج السياسيّة ليست نصوصاً مقدّسة، بل تتغيّر تبعاً للظروف، لكنّ هذا التغيير يجب أن يحافظ على مصالح المواطنين أوّلاً وأخيراً.
في المحصّلة، يبدو أنّ الرئيس محمود عبّاس أراد عبر توقيعه الشخصيّ على البيان أن يقول إنّه هو صاحب القرار النهائيّ، وإنّ مرحلة إعادة هيكلة السلطة قد بدأت بالفعل، حتّى لو جاء ذلك على وقع معارضة داخليّة متصاعدة.
