في سماء السويداء، حيث اعتادت الطيور أن تكون الكائن الوحيد الذي يعبر الحدود من دون إذن، ظهرت الطائرات الحربيّة الأردنيّة بوصفها علامة على تحوّل أعمق من عمليّة عسكريّة عابرة. الضربات الجوّيّة التي ينفّذها سلاح الجوّ الأردنيّ داخل الجنوب السوريّ، والتي قُدّمت رسميّاً بوصفها عمليّات نوعيّة تستهدف شبكات تهريب المخدّرات، لا يمكن قراءتها خارج سياق سياسيّ وأمنيّ معقّد، تتداخل فيه تصدّعات البنية السلطويّة السوريّة، وقلق الأردن المزمن على حدوده، وتحوّلات الإقليم بعد حرب لم تنتهِ فعليّاً بقدر ما غيّرت أشكالها وأدواتها.
الأردن، الدولة التي عاشت دائماً على حافة الجغرافيا المشتعلة، لم يكن يوماً طرفاً محايداً في ما جرى في سوريا، لكنّه كان الطرف الأكثر حذراً، والأكثر ميلاً إلى ضبط الإيقاع. لسنوات، اكتفى بحماية حدوده، واحتواء تداعيات الحرب السوريّة، التي تبدأ بلجوء كثيف وتسلّل جماعات مسلّحة، وصولاً إلى تجارة مخدّرات تمدّدت بهدوء حتّى تحوّلت إلى خطر داخليّ. غير أنّ ما تغيّر اليوم ليس فقط حجم هذا الخطر، بل طبيعة التعامل معه. لم يعد ينتظر الأردن أن تُحلّ المشكلة عند السياج الحدوديّ، بل قرّر أن يلاحقها في عمق الجغرافيا التي تنبع منها.
هنا لا يمكن فصل تصاعد العمليّات الجوّيّة عن التحوّلات التي شهدها الجنوب السوريّ بعد انحسار المعارك الكبرى. مع تآكل منظومة السيطرة المركزيّة، وتراجع حضور الدولة بوصفها مرجعيّة قادرة على فرض القانون، نشأت اقتصادات موازية، كان أخطرها اقتصاد المخدّرات، الذي تحوّل من نشاط إجراميّ محدود إلى شبكة معقّدة، تتداخل فيها مصالح محليّة وإقليميّة، وتمتدّ من مزارع ومختبرات بدائيّة، إلى طرق تهريب منظّمة تصل إلى عمق الأردن ودول الخليج. لم يكن هذا الاقتصاد طارئاً، بل كان نتيجة طبيعية لحرب طويلة أفقرت المجتمع، كسرت القانون وأعادت تعريف القوّة باعتبارها القدرة على السيطرة لا على الحكم.
يمكن قراءة الضربات الأخيرة بوصفها اعترافاً ضمنيّاً بفشل المسار السابق، وانتقالاً إلى منطق أكثر خشونة، وأقلّ دبلوماسيّة
لماذا الآن؟
السؤال الذي يفرض نفسه بقوّة هو: لماذا الآن؟ لماذا بعد فترة من الهدوء النسبيّ، والتنسيق المعلَن بين عمّان ودمشق؟
لا تكمن الإجابة، على الأرجح، في حادثة واحدة أو شحنة مخدّرات بعينها، بل في شعور أردنيّ متراكم بأنّ التفاهمات الأمنيّة لم تعد كافية، وأنّ الوعود السوريّة بضبط الجنوب بقيت في إطار الخطاب أكثر منها في الواقع. حين تصبح الحدود مصدر تهديد يوميّ، لا يعود الصبر فضيلة سياسيّة، بل عبء أمنيّ.
لكنّ الاكتفاء بتفسير العمليّات بوصفها ردّاً أمنيّاً مباشراً يبقى قراءة ناقصة. الضربة الجوّية، في السياسة، ليست فعلاً عسكريّاً، بل رسالة تقول إنّ مفهوم السيادة يصبح هشّاً حين تتحوّل الجغرافيا إلى ممرّ مفتوح، وإنّ الأمن القوميّ لم يعد ينتظر موافقات دبلوماسيّة طويلة. الأردن، وهو ينفّذ هذه العمليّات، يدرك حساسيّة المشهد، ويدرك أنّه يخطو على أرض سياسيّة ملغومة، لكنّه في الوقت ذاته يرسل إشارة واضحة: الجنوب السوريّ، في وضعه الراهن، لم يعد شأناً داخليّاً مغلقاً.
توقّف العمليّات الجويّة السابق لم يكن دليلاً على حلّ المشكلة، بل كان تعبيراً عن مرحلة سياسيّة مختلفة، حاول فيها الأردن الرهان على التنسيق، وعلى عودة تدريجيّة للدولة السوريّة إلى لعب دورها الأمنيّ. غير أنّ هذا الرهان اصطدم بواقع معقّد. شبكات التهريب التي ترسّخت خلال سنوات الحرب لم تكن مجموعات خارجة عن السيطرة وحسب، بل جزء من منظومة مصالح يصعب تفكيكها بقرارات مركزيّة، حتّى لو توافرت الإرادة. مع مرور الوقت، بدا أنّ هذه الشبكات باتت أقوى من أدوات الردع التقليديّة، وأكثر قدرة على التكيّف مع الضغوط.
من هنا، يمكن قراءة الضربات الأخيرة بوصفها اعترافاً ضمنيّاً بفشل المسار السابق، وانتقالاً إلى منطق أكثر خشونة، وأقلّ دبلوماسيّة. لا يخلو هذا الانتقال من تبعات سياسيّة، حتّى لو حرص الطرفان على تغليف العمليّات بخطاب مشترك عن مكافحة المخدّرات. حين تتعرّض مناطق داخل دولة ذات سيادة لقصف جوّيّ من دولة مجاورة، مهما كانت المبرّرات، فإنّ ذلك يترك أثراً في الوعي السياسيّ، ويعيد طرح أسئلة مؤجّلة عن طبيعة العلاقات وحدودها.
ما يجري في سماء السويداء ليس فصلاً جديداً في حرب على المخدّرات، بل تعبير عن مرحلة ما بعد الحرب السوريّة
هل لهذه العمليّات أبعاد سياسيّة غير معلنة؟
الإجابة الأقرب إلى الواقع هي نعم، لكن ليس بالمعنى التآمريّ السطحيّ. يكمن البعد السياسي هنا في إعادة تعريف قواعد اللعبة. الأردن، عبر هذه العمليّات، يضع خطّاً أحمر جديداً، مفاده أنّ أمنه الداخليّ غير قابل للمساومة، وأنّ أيّ فراغ أمنيّ في الجوار سيُعامَل بوصفه تهديداً مباشراً. في المقابل، تجد سوريا نفسها أمام اختبار صعب: إمّا أن تثبت قدرتها على إعادة الإمساك بخيوط الجنوب، أو أن تقبل، بصمت أو بضجيج، بأن تتحوّل تلك الجغرافيا إلى مساحة تدخّلات محسوبة ومحدودة.
مساحة تقاطعات
أمّا على المستوى الإقليميّ، فلا يمكن تجاهل أنّ الجنوب السوريّ ليس فراغاً خالصاً، بل مساحة تتقاطع فيها أُطُر نفوذ متعدّدة. أيّ ضربة جويّة، حتّى لو استهدفت تجّار مخدّرات، تحمل في طيّاتها رسائل إلى أطراف أخرى ترى في هذه الجغرافيا مجالاً حيويّاً لمصالحها. بذلك تصبح العمليّات الأردنيّة جزءاً من لوحة أوسع تتعلّق بإعادة ترتيب النفوذ وضبط الإيقاع في منطقة لم تعد تحتمل الفوضى المفتوحة.
إقرأ أيضاً: أوروبا… والخريف السّياسيّ الطّويل !
في المحصّلة، ما يجري في سماء السويداء ليس فصلاً جديداً في حرب على المخدّرات، بل تعبير عن مرحلة ما بعد الحرب السوريّة، التي تتغيّر فيها طبيعة الصراعات وتتحوّل من مواجهات عسكريّة شاملة إلى عمليّات دقيقة تحمل في صمتها ما هو أبلغ من بياناتها الرسميّة. إنّها لحظة تختبر فيها الدول قدرتها على حماية نفسها في عالم لم يعد يعترف بالحدود بوصفها ضمانة، ولا بالاتّفاقات بوصفها عصاً سحريّة.
هكذا تبدو الطائرات الأردنيّة وهي تعبر الحدود كأنّها تعبر أيضاً من زمن السياسة التقليديّة إلى زمن أكثر قسوة تُكتب فيه القرارات في الهواء، وتُقرأ نتائجها على الأرض، حيث تختلط الأمنيات بالوقائع، وتبقى الحقيقة الأثقل أنّ الجنوب السوري، بما يحمله من فراغات سياديّة وتشظٍّ سلطويّ، سيظلّ مرآة تعكس أزمة أعمق لا تُحلّ بالقصف وحده ولا تُخفى خلف لغة البيانات.
