يكاد يكون الفصل بين مصر والسودان مستحيلاً. النيل، شريان الحياة في البلدين، لا يربط الجغرافيا فحسب، بل يؤسّس لوحدة مصير تتجاوز الحسابات السياسيّة المتغيّرة. ما يجري اليوم في جنوب الوادي الكبير لا يُقرأ في القاهرة بوصفه أزمة جوار عابرة، بل تهديد مباشر يمسّ صميم الأمن القوميّ المصريّ.
أثارت سيطرة ميليشيا “قوّات الدعم السريع” على إقليم دارفور وأجزاء واسعة من كردفان واقترابها من الحدود المصريّة قلقاً متصاعداً لدى القاهرة، التي حدّدت ما سمّته “خطوطاً حمراً” لا يمكن تجاوزها جنوباً، معتبرة أنّ أيّ مساس بها يشكّل تهديداً مباشراً لأمنها القوميّ.
لا يمكن فصل القلق المصريّ من تطوّرات السودان عن البعد المائيّ والاستراتيجيّ المرتبط بملفّ سدّ النهضة الإثيوبيّ. يُفقد ضعف الدولة السودانيّة أو تفكّكها إلى كيانات متناحرة القاهرةَ شريكاً أساسيّاً في إدارة ملفّ النيل، ويمنح أديس أبابا هامشاً أوسع للمناورة وفرض أمر واقع مائيّ جديد. من هذا المنظور، تبدو وحدة السودان عنصراً مكمّلاً للأمن المائيّ المصريّ لا يقلّ أهميّة عن أمن الحدود.
لا ينفصل التصعيد المصريّ عن إدراك القاهرة أنّ الصراع السودانيّ لم يعُد شأناً داخليّاً صرفاً، بل بات ساحة تنافس إقليميّ مفتوحة تتدفّق فيها الأموال والسلاح والدعم السياسيّ لقوى بعينها. هذا العامل الخارجيّ هو ما يجعل مصر أكثر حساسيّة حيال أيّ تغيّر ميدانيّ خشية تحوُّل السودان إلى منصّة نفوذ معادية على خاصرتها الجنوبيّة.
يرتبط البلدان باتّفاق دفاع مشترك موقّع عام 1976، إضافة إلى اتّفاق تعاون عسكريّ وُقّع عام 2021 يشمل التدريب المشترك وأمن الحدود وتبادل الخبرات
الخطوط الحمر المصريّة
كرّس البيان الشديد اللهجة الصادر عن الرئاسة المصريّة عقب لقاء جمع الرئيس عبد الفتّاح السيسي بنظيره السودانيّ عبد الفتّاح البرهان، هذا التحوّل في الخطاب. إذ لوّح البيان بإمكان تفعيل اتّفاق الدفاع المشترك بين البلدين، في رسالة واضحة مفادها أنّ القاهرة لن تقف مكتوفة الأيدي إذا جرى تجاوز تلك الخطوط.
شدّد البيان، وهو الأشدّ منذ اندلاع الحرب في السودان في نيسان 2023، على أنّ الأمن القوميّ المصريّ مرتبط ارتباطاً مباشراً بالأمن القوميّ السودانيّ، مؤكّداً الرفض القاطع لأيّ كيانات موازية أو محاولات لتقسيم البلاد، واعتبر الحفاظ على وحدة الأراضي السودانيّة ومؤسّسات الدولة “خطاً أحمر” لا يمكن التهاون فيه.
اللافت في البيان تأكيد مصر “حقّها الكامل في اتّخاذ كلّ التدابير والإجراءات اللازمة التي يكفلها القانون الدوليّ واتّفاق الدفاع المشترك”، وهو ما فتح باب التساؤلات عن إمكان انتقال القاهرة من الدعم السياسيّ واللوجستيّ والاستخباريّ للجيش السودانيّ إلى دعم عسكريّ مباشر، في ظلّ التراجع الميدانيّ للجيش مقابل التقدّم المتسارع لـ”الدعم السريع”، وسعي الأخير إلى ترسيخ سلطة موازية غير معترَف بها دوليّاً.
يرتبط البلدان باتّفاق دفاع مشترك موقّع عام 1976، إضافة إلى اتّفاق تعاون عسكريّ وُقّع عام 2021 يشمل التدريب المشترك وأمن الحدود وتبادل الخبرات. سبق لمصر أن قدّمت دعماً تدريبيّاً وعسكريّاً للجيش السوداني عبر مناورات بارزة مثل “نسور النيل” و”حماة النيل”.
لم يعلّق قائد “قوّات الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتّي) على البيان المصريّ، في حين غرّد خصمه قائد الجيش السودانيّ عبدالفتّاح البرهان على منصّة “إكس” قائلاً: “شكراً مصر… شكراً فخامة الرئيس عبدالفتّاح السيسي”.
لا يخفي حميدتّي استياءه من القاهرة، إذ احتجزت ميليشياته قوّات مصريّة في قاعدة مروي الجوّيّة خلال الأيّام الأولى للحرب، بتهمة تقديم الدعم للجيش السودانيّ. توالت بعدها حملته الإعلاميّة ضدّ مصر، فاتّهم سلاح الجوّ المصريّ بضرب قوّاته في تشرين الأوّل 2024، مهدّداً بضرب أيّ مطار تنطلق منه طائرات تستهدف قوّاته، في إشارة فُهمت على أنّها تحذير مباشر للقاهرة.
يبدو أنّ السيناريو الأرجح هو استمرار مصر في سياسة الدعم غير المباشر المنخفض الكلفة والعالي التأثير، عبر الاستخبارات والتدريب والتنسيق السياسيّ، وربّما تنفيذ عمليّات محدودة وسرّيّة
مخاطر التّدخّل العسكريّ
مع ذلك، يظلّ الانخراط العسكريّ المصريّ المباشر في السودان محفوفاً بمخاطر كبرى. تدرك القاهرة أنّ الأزمة السودانيّة لا حلّ عسكريّاً لها، وأنّها حرب أهليّة معقّدة تتداخل فيها الانقسامات السياسيّة والقبليّة والإثنيّة، ومنفتحة على تدخّلات إقليميّة ودوليّة متشابكة، وهو ما يجعل أيّ تدخّل عسكريّ مباشر عالي الكلفة وغامض النتائج من الناحية الاستراتيجيّة.
إضافة إلى ذلك، يضع أيّ تدخّل في بلد ذي سيادة مصرَ تحت مجهر القانون الدوليّ، ويعرّضها لاحتمالات عقوبات أو عزلة إقليميّة لا تبدو مستعدّة لدفع أثمانها. ويفرض العامل الاقتصاديّ نفسه بقوّة، إذ إنّ القرار العسكريّ لا يُقاس فقط بالقدرات الميدانيّة، بل بالاقتصاد الذي يموّل هذا الميدان: تضخّم مرتفع، دين خارجيّ قياسيّ وضغوط ماليّة تحدّ من القدرة على تمويل عمليّات عسكريّة طويلة الأمد.
لذلك يبدو أنّ السيناريو الأرجح هو استمرار مصر في سياسة الدعم غير المباشر المنخفض الكلفة والعالي التأثير، عبر الاستخبارات والتدريب والتنسيق السياسيّ، وربّما تنفيذ عمليّات محدودة وسرّيّة إذا ما انقلب ميزان القوى ميدانيّاً بشكل دراماتيكيّ.
إقرأ أيضاً: من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي
استراتيجية ردع ورسائل مزدوجة
في المقابل، يندرج التصعيد المصريّ في الخطاب ضمن استراتيجية ردع ورسائل مزدوجة: طمأنة للجيش والدولة في السودان، وتحذير صريح لقوّات “الدعم السريع” وللداعمين الإقليميّين لها، مع الإبقاء على أولويّة الحلّ السياسيّ عبر المسار المصريّ – السعوديّ، بتيسير أميركيّ، لوقف النار ومنع انزلاق السودان نحو سيناريو التقسيم.
يمكن تصوّر ثلاثة مسارات محتملة للموقف المصريّ في المرحلة المقبلة:
- مسار الردع السياسيّ – العسكريّ: استمرار الخطاب الصارم والدعم غير المباشر لمنع حصول تغيّر جذريّ في ميزان القوى.
- مسار التدخّل المحدود: تحرّكات عسكريّة موضعيّة أو سرّيّة إذا اقترب التهديد من الحدود أو انهارت دفاعات الجيش السودانيّ.
- مسار الاحتواء الدبلوماسيّ: تكثيف الضغط الإقليميّ والدوليّ لفرض هدنة ومنع تكريس أيّ كيان موازٍ.
لا يعني تلويح القاهرة باتّفاق الدفاع المشترك بالضرورة أنّ الدبّابات المصريّة على وشك العبور جنوباً، بل يعكس استعداداً لرفع كلفة أيّ محاولة لفرض أمر واقع يهدّد وحدة السودان أو أمن مصر. غير أنّ هذه الحسابات قد تتغيّر إذا بدا أنّ السودان يتّجه إلى تقسيم فعليّ، أو إلى نشوء كيان معادٍ على الحدود الجنوبيّة. عندها فقط قد تنتقل مصر من منطق الردع إلى منطق الفعل.
