من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

مدة القراءة 6 د

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق الكفاح المسلّح من لبنان، بينما كان محظوراً في دول الطوق الأخرى، مصر وسوريا والأردن. شارك لبنان في حرب 1948 بقرار من الدولة، إلى جانب ثلاثة جيوش عربيّة، ثمّ وقّع اتّفاق الهدنة مع إسرائيل في 1949 أسوة بالدول المعنيّة.

 

جاءت حرب السويس في 1956 لتستهدف الرئيس عبدالناصر ودخلتها إسرائيل إلى جانب بريطانيا وفرنسا للغرض نفسه. في الستّينيّات وقع الصدام داخل الصفّ القوميّ العربيّ واندلعت حرب اليمن بين مصر والسعوديّة. في تلك المرحلة، لم يكن النزاع العربيّ – الإسرائيليّ في صدارة الاهتمامات العربيّة باستثناء السعي إلى تحويل مجرى نهر الأردن، ثمّ الردّ العسكريّ الإسرائيليّ، وإنشاء منظّمة التحرير الفلسطينيّة في 1964.

بعد حرب 1967 لم يعُد التحرير محصوراً بفلسطين بل شمل أراضي مصريّة وسوريّة. في المقابل، لم تكن للبنان أيّ أرض محتلّة، إلّا أنّه أصبح “دولة مواجهة” على يد التنظيمات الفلسطينية التي أطلقت عمليّاتها العسكريّة من الجنوب، فيما الدولة عاجزة ومنقسمة، لا سيما أنّها ليست سلطويّة أو معسكرة. بعد حرب 1973 بات لبنان ساحة وحيدة للنزاع العربيّ – الإسرائيليّ. احتلّت إسرائيل الجنوب في 1978 وأنشأت “الحزام الأمنيّ”، وأخرجت القيادات الفلسطينيّة والمقاتلين من لبنان في اجتياح واسع في 1982 وفي ظروف داخليّة وخارجيّة مؤاتية.

انتفاضة الحجارة أحرجت إسرائيل

انتقلت القيادة الفلسطينية بلا مقاتلين إلى تونس، حيث لا حدود مشتركة مع إسرائيل. بعد فشل التقارب مع الأردن، بدأ التركيز على التصدّي للاحتلال داخل فلسطين. أحرجت انتفاضة الحجارة إسرائيل وأعادت القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة. ردّت إسرائيل باغتيال أبي جهاد في تونس في عمليّة عسكريّة عن طريق البحر. ظلّ الحدث منفصلاً عن الدولة والمجتمع في تونس، خلافاً لما حصل في بيروت بعدما اغتالت إسرائيل قادة فلسطينيّين في 1973.

خرجت سوريا من النزاع المعهود، وأولويّاتها الآن في مكان آخر، وحوصر اليمن والمواجهة متواصلة في العراق

فتح اجتياح العراق للكويت وحرب تحريرها الطريق لإطلاق مفاوضات عربيّة – إسرائيليّة مباشرة بدعم أميركيّ غير مسبوق، على الرغم من معارضة إسرائيل. في اجتماعات أوسلو السرّيّة تمّ الاعتراف المتبادَل بين إسرائيل ومنظّمة التحرير في 1993، وعاد ياسر عرفات بعدها إلى فلسطين. وقّع الأردن معاهدة سلام مع إسرائيل في 1994. كادت سوريا أن توقّع معاهدة سلام، بعد اتّفاق الطرفين على كلّ الترتيبات في الجولان برعاية أميركيّة، لولا إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بالسيادة على بحيرة طبريا الفاصلة بين سوريا وإسرائيل.

في المقابل، لم يشارك لبنان في المفاوضات مع إسرائيل عندما أصبحت جديّة، أي بعدما انخرطت بها سوريا في 1994. تواصلت المواجهات بين “الحزب” وإسرائيل، وجاء تفاهم نيسان في 1996 برعاية دوليّة وإقليميّة لينظّم الحرب بشرط تفادي الأهداف المدنيّة. استطاع “الحزب” أن يجعل الاحتلال مكلفاً وأن يحرّر الجنوب عام 2000. تجدّدت الحرب في 2006. اندحرت إسرائيل وحافظ “الحزب” على بنيته العسكريّة وطوّرها بدعم من إيران وسوريا. ساد هدوء الأمر الواقع ودخل “الحزب” في الحرب السوريّة وتوسّع دوره العسكريّ في اليمن والعراق.

حرب الإسناد

بدأت محطّة فاصلة جديدة مع حرب الإسناد في 2023. اعتبر “الحزب” أنّ قواعد الاشتباك مع إسرائيل باقية على حالها. لكن بعد حرب غزّة نسفت إسرائيل قواعد الاشتباك وضربت وقتلت بلا رادع. مع سقوط نظام الأسد في سوريا وتفاقم المواجهة مع إيران، انطلقت حقبة جديدة، تبدّلت معها طبيعة المواجهة والأهداف. من منظار إسرائيل المدعومة من واشنطن، انحصر النزاع العربيّ – الإسرائيليّ بفلسطين وبات لبنان ساحة نزاع أساسيّة مع إيران و”الحزب”. في فلسطين، ضاقت خيارات “حماس” بعد عامين من الإبادة وسارت باتّفاق مع إسرائيل بدعم أميركيّ وإقليميّ.

يقع مسار المرحلة الراهنة بين حدّين: إنهاء النزاع العسكريّ أو استئناف الحرب

لا تقلّ تداعيات حربَي غزّة ولبنان فداحةً عن هزيمة 1967. بعد 1967 استعدّ العرب للحرب المقبلة، كسروا الدفاعات الإسرائيليّة ثمّ تفرّقوا. لكن بعد حرب الإسناد أعادت إسرائيل احتلال أراضٍ في لبنان وغزّة. واقع الأمر أنّ طبيعة النزاع العربيّ- الإسرائيليّ المعهود تبدّلت، فلا عروبة تحرّك الناس ولا قضيّة جامعة، والمصير المشترك شعارات بلا قدرات.

سار العرب ومعهم السلطة الوطنيّة وتركيا ودول أخرى بخيار حلّ الدولتين، وأصّرت المملكة السعوديّة عليه مع الرئيس الأميركيّ. أمّا إيران فتحرّكت خدمة لمصالحها: هدنة مع المملكة السعوديّة برعاية الصين وتفاوض مع أميركا ودول أخرى وبطريقة غير مباشرة مع إسرائيل. أميركا دونالد ترامب لا تمانع الصفقة مع إيران لكن بشروطها، بينما إسرائيل تريد إطاحة النظام. وقعت الحرب بين إسرائيل وأميركا وبين إيران، وقد تتكرّر. بدورها، خرجت سوريا من النزاع المعهود، وأولويّاتها الآن في مكان آخر، وحوصر اليمن والمواجهة متواصلة في العراق. لم يبقَ في الميدان سوى لبنان حيث سلاح إيران.

جهة واحدة مفتقَدة في النزاع المتحوّل: الدولة في لبنان المغيّبة منذ أكثر من نصف قرن

جهة واحدة مفتقَدة في النزاع المتحوّل: الدولة في لبنان المغيّبة منذ أكثر من نصف قرن. وظيفة لبنان الساحة لم تعُد قائمة جرّاء تبدّل معالم نزاع ما بعد 1967. انتهت حروب لبنان عام 1990، وتمّ التحرير عام 2000، بينما حرب الجنوب متواصلة، إلّا أنّها لم تعد حرباً مع إسرائيل وحدها بل مع أميركا والمجتمع الدوليّ ومعظم العرب، على اختلاف الدوافع والأسباب.

إقرأ أيضاً: إيران والأولويّات الاستراتيجيّة: قبل النّكبة وبعدها!

المرحلة بين حدّين

يقع مسار المرحلة الراهنة بين حدّين: إنهاء النزاع العسكريّ أو استئناف الحرب. ليس الخيار بين السلاح “والماء والخبز”، بل بين مصالح لبنان وأهله وحروب لمصلحة الغير في لبنان. اتّفاق 17 أيّار 1983، الذي عارضته سوريا بدعم سوفيتيّ ومحلّيّ، غابت عنه الصواريخ والمسيّرات، وكان نفوذ إيران و”الحزب” في لبنان في البدايات. أمّا اليوم فالمعادلات مختلفة في كلّ تفاصيلها. إذا تمّت الصفقة مع إيران أو تعثّرت، وفي حال قُبلت نسب تخصيب اليورانيوم أو رُفضت، الخاسر الأكبر في الحالتين هو لبنان.

 

* أستاذ جامعيّ وسفير سابق.

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ…

باريس “تذكّر” بالفصل السابع إذا استمر تمرّد الحزب..

يعود الملفّ اللبنانيّ إلى واجهة الاهتمام الدوليّ من بوّابة باريس، حيث تتكثّف الاجتماعات والاتّصالات بحثاً عن مقاربة جديدة تواكب التحوّلات الأمنيّة والسياسيّة التي يشهدها الجنوب،…