أين مسؤوليّة الدّولة من المودعين؟

مدة القراءة 4 د

يكاد ينقضي أسبوعٌ، حتّى الآن، من دون أن تتمكّن الحكومة من الاتّفاق على “مشروع قانون الفجوة الماليّة”، فكم شهراً ستستغرق مناقشته في مجلس النوّاب؟

 

مهما طالت المناقشات لا شيء سيغيّر الحقيقة القاسية: ليس بإمكان أيّ قانون مهما كان متقناً أن يعيد الودائع إلى أصحابها. أموال الناس في المصارف تبخّرت وتركت محلّها للفراغ. وهذا لا يخفى على رئيس “حزب القوّات اللبنانيّة” الدكتور سمير جعجع، الذي صرّح بأنّ وزراء “القوّات” لن يصوّتوا على مشروع لا يعيد الودائع لأصحابها، وهذا يعني أنّهم لن يجدوا في الأمد المنظور قانوناً يوافقون عليه.

الثغرة الأساسيّة التي سيستعملها معارضو المشروع هي تجاهله لإظهار ومحاسبة المسؤولين عن إحدى أكبر جرائم العصر، التي لم تكتفِ بسحق ماضي المدّخرين فرداً فرداً ومستقبلهم بل وضربت موقع لبنان الاقتصاديّ بكامله، الذي لا يمكن إعادة بنائه قبل عشرات السنين. لكن من إيجابيّات المشروع أنّه شكّل أوّل محاولة لمحاسبة المستفيدين من “فورة” العمليّات غير المشروعة التي سبقت وواكبت الانهيار، فاستفادوا من الأزمة بدون وجه حقّ قانونيّ أو أخلاقيّ.

مسؤوليّة الدّولة

لكنّ المشروع تعثّر في موضوع مسؤوليّة الدولة فأشاح بوجهه عن دورها الجسيم في الانهيار، مكتفياً بتوزيع الخسائر على مصرف لبنان والمصارف والمودعين الذين، بمختلف فئاتهم، يتحمّلون العبء الأكبر في توزيع الخسائر. تكفي الإشارة هنا إلى مسؤوليّة الدولة عن كوارث السياسة النقديّة وعن سياسة الدعم التي استنفدت أموال المودعين.

صحيح أنّ المصرف المركزيّ مستقلّ في تحديد وتطبيق السياسة النقديّة. لكنّ القانون كرّس هذه الاستقلاليّة وكفلها حتى تقوم بدورها في حماية العملة الوطنيّة ولجم التضخّم وتحفيز النموّ الاقتصاديّ، غير أنّ القانون منح الدولة الوسائل الكافية لإيقاف المصرف المركزيّ عند حدّه عندما تتحوّل السياسة النقديّة إلى أداة لتدمير الاقتصاد والمجتمع كلّه.

صحيح أنّ العبء الذي تتحمّله الدولة سيرتدّ بالنتيجة على دافعي الضرائب، أي الشعب، لكنّ الشعب أيضاً مسؤول عن خياراته في صناديق الاقتراع

استنفد مصرف لبنان احتياطاته الخاصّة سنة 2015 فلجأ إلى سلاح الفوائد المرتفعة لكي يسحب الادّخارات، خصوصاً بالعملات الأجنبيّة، من المصارف ويستعملها في تثبيت سعر الصرف المصطنع وتمويل العجز المتمادي في الموازنة العموميّة.

بدأ الانهيار الماليّ في لبنان عندما رفع حاكم مصرف لبنان معدّلات الفائدة على إيداعات المصارف بالعملات الأجنبيّة لديه إلى مستويات تاريخيّة وصلت إلى 13% في صيف 2019 بينما كان متوسّط معدّل “ليبور” المرجعيّ في لندن، في الفترة نفسها، 1.6% لمدّة ستّة أشهر. أخذت المصارف تتسابق على تصفية إيداعاتها في المصارف الخارجيّة لكي تودعها في مصرف لبنان.

هكذا انهار النظام النقديّ والمصرفيّ، عمداً، بواسطة سياسة مصرف لبنان النقديّة وأمام ناظرَي الحكومة وبمعرفتها. إنّ سيولة النظام المصرفيّ اللبنانيّ التي لم تهبط عن 99% في سنوات الحرب الأهليّة، انخفضت بسبب سياسة الفوائد في مصرف لبنان من مستوى 90% إلى 7.3% سنة 2019.

من جهة أخرى، بحثت حكومة حسّان دياب سياسة الدعم تحت وطأة الخوف من الشارع الذي كان يعجّ بالتظاهرات الصاخبة المطالبة بإسقاط الحكومة بسبب الغلاء وارتفاع الأسعار. خضعت الحكومة لمطالب الشارع وابتزاز القوى السياسيّة، فقرّرت الاستمرار بسياسة الدعم مهما كان الثمن. قال رئيس الحكومة أمام مجلس الوزراء إنّه سيستمرّ بالدعم حتّى لو أدّى إلى استنفاد احتياطيّ مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة بكامله.

بدأ الانهيار الماليّ في لبنان عندما رفع حاكم مصرف لبنان معدّلات الفائدة على إيداعات المصارف بالعملات الأجنبيّة لديه إلى مستويات تاريخيّة

5.6 مليارات دولار كلفة الدّعم

لم يكن رئيس الحكومة يعلم، على ما يبدو، أنّه لا ينفق على الدعم من احتياطيّ مصرف لبنان، بل من أموال المودعين في المصارف. كان حاكم مصرف لبنان وقتها يُخفي عن السلطات السياسيّة، لغاية في نفسه، حقيقة الوضع الماليّ للمصرف المركزيّ، وأنّ رصيد الاحتياطيّ أصبح سلبيّاً، وأنّه يلبّي طلبات الحكومة من ودائع الناس.

أورد وزير الماليّة الأسبق الدكتور غازي وزني في مذكّراته عن تلك المرحلة أنّ نفقات الدعم بلغت 500 مليون دولار شهريّاً، وبحدود 20 مليون دولار يوميّاً. أضاف أنّ الكلفة السنويّة للدعم بلغت وقتها 5.6 مليارات دولار، بينها 2.2 مليار دولار لدعم المحروقات و980 مليوناً لدعم السلّة الغذائيّة و1.2 مليار لدعم الأدوية.

إقرأ أيضاً: نقل معاكس للثروة: استعادة 30% من القروض المسددة بالليرة

صحيح أنّ العبء الذي تتحمّله الدولة سيرتدّ بالنتيجة على دافعي الضرائب، أي الشعب، لكنّ الشعب أيضاً مسؤول عن خياراته في صناديق الاقتراع.

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ…

من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق…