بينما كانت دمشق تنتظر ردّ “قسد” على مقترحاتها للاندماج في المؤسّسة العسكريّة، فاجأ مظلوم عبدي الجميع بتصريحات ناريّة حول الكونفدراليّة الكرديّة ووحدة الأكراد في الإقليم. قال عبدي: “سيكون عام 2026 عام الوحدة الكرديّة، عام الكونفدراليّة الوطنيّة الكرديّة والوحدة بين أجزائها الأربعة. لم نكن يوماً أقرب إلى تحقيق ذلك. في عام 2026، ستُكفل حقوق الأكراد وأرضهم في “روج آفا”* في الدستور”.
لم يكن هذا الخطاب إعلاناً سياسيّاً فقط، بل محاولة توجيه رسالة متعدّدة الأبعاد: إلى دمشق، إلى أنقرة، إلى واشنطن وإلى الأجنحة الداخليّة في صفوف “قسد” نفسها.
التوقيت المتزامن بين زيارة الوفد التركيّ الرفيع المستوى لدمشق برئاسة الوزير هاكان فيدان واشتداد التوتّر على خطوط التماسّ في حلب أثار تساؤلات عمّا إذا كان التصعيد محاولة لفرض نفوذ سياسيّ أو تحريك أوراق تفاوضيّة قبل أيّ اتّفاق حقيقيّ على مستقبل “قسد”.
يخلق إعلان عبدي في الوقت نفسه التزام بنود اتّفاق 10 آذار حالة من الغموض المتعمَّد تجعل التصريحات أداة تفاوضيّة متعدّدة الاستخدامات.
تعدّد الآراء داخل “قسد”
فيما تحاول دمشق التوصّل إلى اتّفاق مع “قسد” على دمجها في الدولة، تتكشّف داخل التنظيم أزمة عميقة بين الأجنحة المختلفة:
– جناح يرى أنّ أيّ تفاهمات مع دمشق قد تضعفه أو تهمّشه.
– قادة “وحدات حماية المرأة” مثل روهلات عفرين وسوزدار حجي أكّدت أنّ المحادثات مع دمشق لم تُحرز أيّ تقدّم يُذكر، وأنّها لن تتخلّى عن استقلاليّتها حتّى لو انضمّت إلى الجيش السوريّ.
– القياديّ آلدار خليل يشير إلى أنّ نموذج الإدارة الذاتيّة واللامركزيّة يشكّل رؤية ديمقراطيّة يمكن أن تُطرح في الحوار مع دمشق.
يخلق هذا الانقسام حالة من الشكوك في مدى استعداد كلّ جناح للتنازل أو الانخراط في مؤسّسات الدولة، ويطرح تساؤلات عن قدرة القيادة العليا في دمشق على توحيد الصفوف ومدى تأثير هذه الانقسامات على المسار التفاوضيّ.
ليس التصعيد في حلب بين الأمن النظامي وقسد مجرد حدثاً أمنيّاً عابراً وحسب، بل انعكاس مباشر لهذه الانقسامات
قلق من التّفاهم مع دمشق
ليس التصعيد في حلب بين الأمن النظامي وقسد مجرد حدثاً أمنيّاً عابراً وحسب، بل انعكاس مباشر لهذه الانقسامات، ويعكس قلق بعض الأجنحة من أنّ أيّ تفاهمات مع دمشق قد تأتي على حساب مصالحها، بينما تستمرّ “وحدات حماية المرأة” في تأكيد استقلاليّتها وموقفها الثابت تجاه أيّ تدخّل خارجيّ.
هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ التحرّكات التركيّة والأميركيّة في سوريا، إلى جانب الدور الروسيّ والتهديدات الإسرائيليّة، تشكّل ضغطاً مستمرّاً على اللاعبين السوريّين المحلّيّين لحسم مواقفهم.
بعد أيّام من تصريحات مظلوم عبدي ووصول ردّ “قسد” على مقترحات دمشق، وصل الوفد التركيّ إلى دمشق، في خطوة اعتُبرت تأكيداً لمتابعة أنقرة مسار دمج “قسد” في الدولة السوريّة. في الوقت نفسه، كرّرت واشنطن موقفها من ضرورة الانخراط الكامل لـ”قسد” في الجيش السوريّ، مع إبقاء التنسيق على مكافحة داعش. لكنّ المفاجأة جاءت على جبهات حلب.
يعيد التحرّك الإقليميّ والدوليّ رسم موازين القوّة، ويحتّم على القوى الداخليّة حسم مواقفها، خصوصاً في ما يتعلّق بمصيرها السياسيّ ومستقبل اندماجها في مؤسّسات الدولة.
تركت هذه التحرّكات المشترَكة أثراً كبيراً في صفوف “قسد”، التي ظهرت فيها علامات القلق والتردّد حيال أيّ تفاهمات محتملة.
في هذا السياق، لا يمكن فصل أيّ تصعيد أمنيّ في حلب عن هذه الضغوط، بل هو انعكاس لتوازن القوى ومحاولة بعض الأطراف تعطيل أو تعديل مسار الاندماج قبل الوصول إلى أيّ اتّفاق نهائيّ.
بالتزامن مع استمرار المباحثات بين دمشق و”قسد”، كرّر المبعوث الأميركيّ توم بارّاك تأكيد التعاون مع دمشق في مسار دمج “قسد”، مع إبقاء التنسيق مع الأخيرة قائماً في مكافحة “داعش”.
على الأرض، شنّت القوّات الأميركيّة والسوريّة عمليّات مشترَكة استهدفت مستودعات تنظيم داعش في ما عُرف بـ”ضربة عين الصقر”، بينما ساهمت التدخّلات الإسرائيليّة في الجنوب في زيادة الضغوط على دمشق والقوى المحلّيّة.
في ضوء هذه المعطيات، يصعب التعامل مع ما جرى في حلب كحادث أمنيّ معزول
الخطوة التالية الحسم..
ولّدت هذه التحرّكات العمليّة والسياسيّة بين دمشق وواشنطن بدعم تركيّ المزيد من القلق في صفوف “قسد” على مصيرها ومستقبل اندماجها في الدولة السوريّة.
في ضوء هذه المعطيات، يصعب التعامل مع ما جرى في حلب كحادث أمنيّ معزول. جاء التصعيد في لحظة يتقدّم فيها مسار التفاهمات على مستقبل “قسد”، ويتراجع فيها هامش المناورة أمام بعض الأجنحة داخلها، في محاولة واضحة لإعادة خلط الأوراق قبل استحقاق سياسيّ يفرض نفسه.
إقرأ أيضاً: العراق: واشنطن تروّع الفصائل… فتُخضعها
مع اقتراب الحديث الجدّيّ عن الاندماج في الدولة السوريّة، يتحوّل التصعيد من خيار تفاوضيّ إلى أداة تعطيل تستخدمها الأطراف الأكثر خشية من خسارة دورها أو تصفيتها سياسيّاً.
ما يزال المسار الذي بدأ يتشكّل بين دمشق وأنقرة وواشنطن في مرحلة الاختبار، لكنّ المؤشّرات توحي بأنّ الخطوة التالية ستقود نحو الحسم.
*روج آفا اسم يطلقه الأكراد على مناطقهم في شمال سوريا، ويعني بالكردية “الغرب” أو “غرب كردستان“.
لمتابعة الكاتب على X:
