تفيد مقاربة قديمة لتشخيص العلاقات الإيرانيّة – العربيّة المعاصرة، مؤسّسها الباحث الأميركيّ – الإيرانيّ الأصل وليّ نصر، أنّ الصراع مذهبيّ، سنّيّ – شيعيّ. ثار الشيعة للخروج من المظلوميّة، واتّجهوا إلى التناصف والتحرّر(!) بتكوين محور المقاومة. وقد انكسر محور المقاومة الآن، فإلى أين أو بأيّ اتّجاه تذهب إيران؟!
قرأتُ مقالة الأستاذ نديم قطيش في موقع “أساس” بتاريخ 15/12/2025 بعنوان: خرافة النكبة الشيعيّة، وهي مراجعة نقديّة- نقضيّة لمقالةٍ نشرها الباحث المعروف من أصول إيرانيّة وليّ نصر ابن المفكّر الشهير سيّد حسين نصر (مع زميلة له) في مجلّة “فورين أفيرز”. وكلاهما بأميركا، الأب تسعينيّ متقاعد، والابن أستاذ بجامعة جونز هوبكنز.
أعدتُ قراءة مقالة وليّ نصر وماريا فانتابي ولم أرِد التعليق مباشرةً لأنّ إحدى دور النشر الأميركيّة أعلنت كتاباً جديداً لوليّ نصر عنوانه “Iran’s Grand Strategy” طلبتُه واطّلعت عليه.
أظنّ أنّ الأمر يحتاج إلى مراجعةٍ شاملةٍ لا تتعلّق بآراء وليّ نصر القديمة/ الجديدة فقط، بل وبعمل اللوبي القوميّ الإيرانيّ بالولايات المتّحدة، الذي يعتبر نفسه وسيطاً بين أميركا وإيران، ويطلب بالدرجة الأولى من الأميركيّين تفهّم مطالب إيران (المشروعة) وعدم الاكتفاء بسياسة الاحتواء Containment التي غادرها الأميركيّون منذ فترةٍ بعد فشلها، وبخاصّةٍ أيّام رئاسة دونالد ترامب الأولى.
المظلوميّة الشّيعيّة
تقوم مقالة وليّ نصر وزميلته على فكرة أو مقولة “المظلوميّة الشيعيّة” التي كان وليّ نصر أحد مؤسّسيها في كتابه الصادر عام 2006 بعنوان “صحوة الشيعة”. عماد تلك المقولة أنّ الشيعة في سائر أنحاء المشرق، إن لم يكن العالم، إنّما دفعتهم للثورة المظلوميّة القديمة في أوطانهم ومجتمعاتهم، وحملات السلفيّات عليهم، وكانت ثورة عام 1979 أحد تجليّاتها.
بعد ما اعتبروه نجاحاً للحرس الثوريّ وفيلق القدس بالعراق، صار الجنرال سليماني هو رجل إيران الأوّل في المشرق العربيّ
قلت له مرّةً ضاحكاً: إنّك تصغّر من قدر الثورة الإيرانيّة لأنّ قائدها السيّد الخميني كان يعتبرها ثورة الإسلام على الغرب، والمستضعَفين على المستكبرين، وبالطبع هاجم العدوان الصدّاميّ، لكنّه كان يدعو المسلمين الآخرين إلى التعاون معه من أجل إخراج الغرب، وخاصّة أميركا، والشرق، وخاصّة الاتّحاد السوفيتيّ، ذلك أنّ ثورته ليست شرقيّة ولا غربيّة.
لا يخرج كتاب وليّ نصر الجديد عن الاستراتيجية الإيرانيّة الكبرى في عهدَي الخميني وخامنئي، عن هذه المقولة، وبالطبع يستشهد بعدوان صدّام حسين (1980-1988)، ويقرّ بأنّ الإيرانيّين ساعدوا الأميركيّين في أفغانستان (2001) لأنّهم كانوا يرون في المتشدّدين السنّة أعداءً لإيران أكثر منهم أعداء لأميركا.
“داعش” من إنتاج أميركا وإسرائيل
لذلك في لحظاتٍ حرجةٍ بعد قيام الثورة السوريّة (2011-2012) كانوا يعتبرون “داعشاً” من إنتاج أميركا وإسرائيل، وسكتوا عن “القاعدة” لأنّها صارت في أحضانهم عندما هرب رجالاتها من أفغانستان في خضمّ الغزو الأميركيّ (2001-2002).
بحسب استراتيجية وليّ نصر الكبرى التي بمقتضاها تُعتبر “القاعدة” ثمّ “داعش” ردود فعل سنّيّة عنيفة ضدّ الشيعة وتنال من الأمن الوطنيّ الإيرانيّ، تطوّرت الاستراتيجية الإيرانيّة بالتدريج.
ساعد الإيرانيّون في أفغانستان من خلف الستارة. ظلّوا وراء الأميركيّين في حروب العراق الداخليّة على الرغم من شعورهم بالخطورة. لكنّهم بعد عام 2008 عندما أعلنوا “محور المقاومة”، بدؤوا يتحوّلون من الدفاع إلى الهجوم لمواجهة السنّيّة المقاتلة والمدعومة من جهة، والتقارب أو محاولة ذلك مع أميركا التي تنازلت لهم عمليّاً عن العراق، وراحت تتنازل لهم هنا وهناك للتلاقي حول النوويّ الذي حصل عام 2015.
البُعْد الأساسيّ الذي يعطيه وليّ نصر للنزاع السنّيّ – الشيعيّ، يُلهيه عن الأبعاد الأُخرى للاستراتيجية الإيرانيّة. منذ مطلع الألفيّة الثالثة صار قاسم سليماني زعيم “فيلق القدس” مكلَّفاً باستراتيجية المواجهة في المنطقة من خلال “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.
الإيرانيّون الحاكمون مذهولون لسقوط النظام السوريّ، بدرجة انذهالهم نفسها من هجوم الاثني عشر يوماً
كان سليماني والأسد وراء انقلاب “حماس” في غزّة عام 2007، وكلا القالبين والمقلوبين سنّة. هل صحيح أنّ الإيرانيّين كانوا لا يرون غير هذا الصراع المذهبيّ؟ لكن من جهةٍ أُخرى كيف يدعمون “حماساً” و”الجهاد” (ضدّ إسرائيل)، ويريدون أن تتحسّن علاقاتهم مع الولايات المتّحدة في الوقت نفسه؟
الحفاظ على ولاء سورية
على كلّ حال، بعد التقدّم في العراق، صار همّ الإيرانيّين الرئيس الحفاظ على ولاء سورية لهم. لذلك اشتدّ عليهم الروع عندما قامت الثورة واعتبرها خامنئي نهضةً سنّيّةً ضدّ الشيعة في لبنان والعراق.
لذلك يكثر وليّ نصر من الدعاوى بشأن دعم المتطرّفين السنّة للتدليل على صحّة رؤيته، مع أنّه يعلم أنّه في اجتماع محور المقاومة بطهران عام 2008 كان كلّ المشاركين من السنّة باستثناء “الحزب” وبعض الفصائل العراقيّة، بل إنّ بشار الأسد أرسل سنّيّاً إلى اجتماع المحور العظيم.
بعد ما اعتبروه نجاحاً للحرس الثوريّ وفيلق القدس بالعراق، صار الجنرال سليماني هو رجل إيران الأوّل في المشرق العربيّ. لا ينكر المؤلّف أنّه كان هناك خبراء حول خامنئي ضدّ التدخّل بسورية استناداً إلى معارضة الرأي العامّ. في حين كان استراتيجيّون وعسكريّون يعتبرون أنّ سقوط النظام السوريّ سيؤدّي إلى سقوط العراق، و”الحزب” بلبنان.
استحضار ميليشيات
مطالع عام 2012 اقتنع حسن نصرالله بذلك وحصل على دعم كبير من مكتب خامنئي للتدخّل القويّ في سورية. استحضر الحرس الثوريّ ميليشيات أفغانيّة وباكستانيّة شيعيّة، جرى نشرها وتدريبها بسورية من قبل الحرس و”الحزب”.
لا يحدّثنا وليّ نصر عن مسألة المزارات المقدّسة، وبخاصّة مقام السيّدة زينب، ولماذا جرت المبالغة في الخوف عليها؟! يقول إنّ الحكم والشعب بإيران خافوا على المزارات بالعراق بالفعل، بسبب هول “داعش” وكراهيتها للشيعة. أمّا مزار السيّدة زينب فقد رأى نصرالله نفسه ضرورة تعليل التدخّل بحماية المزار. بالطبع يزعم المؤلّف أنّ سليماني هو الذي دفع بوتين للتدخّل.
لا يجيب وليّ نصر من إيران ولا عن إيران. بل يطلب من الجهات السنّيّة المؤثّرة أن تستألف الشيعة وتدمجهم وتعطيهم حقوقهم
الإيرانيّون الحاكمون مذهولون لسقوط النظام السوريّ، بدرجة انذهالهم نفسها من هجوم الاثني عشر يوماً. وبالطبع القائمون بالانقلاب إسرائيل والأميركيّون.
مسيرة دفاعيّة
كانت المسيرة الإيرانيّة دفاعيّة بحسب وليّ نصر منذ الحرب العراقيّة. لمّا تقدّموا بالعراق (2003-2005) وبغزّة (2007)، مضوا من الدفاع إلى الهجوم وظهرت فكرة الاستيلاء على العواصم الأربع. ماذا يفعلون الآن بعد كلّ ما حدث، وانكسار محور المقاومة باعتباره استراتيجية هجوميّة؟
لا يجيب وليّ نصر من إيران ولا عن إيران. بل يطلب من الجهات السنّيّة المؤثّرة أن تستألف الشيعة وتدمجهم وتعطيهم حقوقهم! انكسرت الهجمة الإيرانيّة في الدول العربيّة بعدما قتلت وهجَّرت الملايين، لكنّها لم تنتهِ. ليقُل لنا وليّ نصر أين هي المظلوميّة التي يريد من السنّة أن يرفعوها؟!
إقرأ أيضاً: عقليّة الغلبة دمّرت لبنان
ختاماً، الإيرانيّون – الأميركيّون ليسوا سواء. يرى الباحث الإيرانيّ كريم سجادبور في مقالته بمجلّة “فورين أفيرز” أيضاً (عدد تشرين الثاني – كانون الأوّل 2025) تحت عنوان “خريف آيات الله”، أنّ النظام الإيرانيّ بعد الضربات وفي الشهور الأخيرة لخامنئي أمام أحد ثلاثة احتمالات: التغيير التدريجيّ لكن القويّ والعميق بالداخل وتجاه الخارج، أو الجمود على ما هو عليه الآن، وعندها يأتي الاحتمال الثالث: الانقلاب العسكريّ ولو المبطَّن، أو الانقلاب الشعبيّ العنيف.
لمتابعة الكاتب على X:
