ترامب يُقاضي BBC: ترويض أباطرة الإعلام؟

مدة القراءة 6 د

لا يمكن قراءة قرار الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب مقاضاة هيئة الإذاعة البريطانيّة (BBC) على أنّه خطوة قانونيّة مرتبطة بخلافٍ على مونتاج أو اتّهام بالتشهير. إنّه حلقة جديدة في استراتيجية إعلاميّة طويلة الأمد لا يتعامل فيها ترامب مع الصدام مع المؤسّسات الإعلاميّة الكبرى كعبء سياسيّ، بل كأداة مركزيّة لبناء الهويّة، إدارة القوّة وصياغة الإرث السياسيّ.

 

بالنسبة لترامب، لم تعُد قاعة المحكمة منفصلة عن ساحة السياسة. تحوّلت الدعاوى ضدّ وسائل الإعلام إلى امتداد مباشر للخطاب السياسيّ، فتُستخدم لإعادة ضبط السرديّة العامّة بغضّ النظر عن النتائج القانونيّة النهائيّة.

يدرك ترامب حقيقة أساسيّة في السياسة المعاصرة: الانتباه هو رأس المال، والصدام هو أسرع وسيلة للحصول عليه. حين يقاضي مؤسّسة بحجم BBC، الرمز الإعلاميّ العالميّ والمؤسّسة العامّة العريقة، لا يطعن فقط في تقرير أو برنامج، بل يعيد تأكيد أطروحته أنّ “النظام الإعلاميّ الليبراليّ” ليس منحازاً فحسب، بل سلطة مغلقة وغير خاضعة للمحاسبة.

بالنسبة لترامب، لم تعُد قاعة المحكمة منفصلة عن ساحة السياسة. تحوّلت الدعاوى ضدّ وسائل الإعلام إلى امتداد مباشر للخطاب السياسيّ

شكل من أشكال الخطاب السّياسيّ

ما يميّز دعوى BBC تحديداً طابعُها الدوليّ غير المسبوق. فمقاضاة مؤسّسة إعلاميّة عامّة أجنبيّة مموّلة من دافعي الضرائب البريطانيّين، وتُعتبر ركيزة من ركائز الإعلام العالميّ، خطوة نادرة، إن لم تكن الأولى من نوعها، لرئيس أميركيّ. هنا يتجاوز ترامب الحدود الوطنيّة، محوّلاً صراعه مع “الأخبار الكاذبة” إلى مواجهة مع ما يصفه أنصاره بـ”النخبة الإعلاميّة العالميّة”. بهذا لا يقتصر الأمر على الإعلام الأميركيّ الليبراليّ، بل يصبح تحدّياً لنظام إعلاميّ دوليّ يُنظر إليه كجزء من النظام القائم الذي يسعى ترامب إلى تفكيكه.

ليس نجاح الدعوى أو فشلها في المحاكم جوهر المسألة. إذ يحقّق رفعها بحدّ ذاته لترامب عدّة أهداف:

  • إعادة فتح الجدل في سرديّة أحداث 6 كانون الثاني (اقتحام مبنى الكونغرس) ورفض الرواية السائدة.
  • نقل موقعه أمام التاريخ من متّهم إلى مدّعٍ يطالب بالإنصاف.
  • توجيه رسالة رمزيّة إلى أنصاره مفادها أنّه مستعدّ لمواجهة أقوى المؤسّسات الإعلاميّة الدوليّة.

في هذا السياق، يصبح التقاضي شكلاً من أشكال الخطاب السياسيّ، فيفرض نفسه على التغطية الإعلاميّة ويُجبر الصحافة على التفاعل مع ترامب بشروطه هو.

تقليديّاً، الإعلام هو من يحقّق مع السياسيّين ويحاسبهم. ترامب قلب المعادلة. عبر مقاضاة وسائل الإعلام، حوّلها إلى طرف متّهم، ووضع نفسه في موقع “الضحيّة” التي تواجه سلطة إعلاميّة غير منتخَبة. يجد هذا الانقلاب في الأدوار صدى عميقاً لدى قاعدته الشعبيّة، التي ترى في الإعلام التقليديّ مركز قوّة منفصلاً عن إرادة الناس.

مع مرور الوقت، ترك هذا النهج أثراً ملموساً داخل غرف الأخبار. لم يعد التعامل مع ترامب قراراً تحريريّاً وحسب، بل حساب قانونيّ وماليّ يتعلّق بسمعة المؤسّسة. حتّى حين تصرّ المؤسّسات الإعلاميّة على صحّة موادّها، ترتفع كلفة المواجهة وتزيد درجة التردّد في نشر الأخبار المتعلّقة بترامب وإدارته.

لا يسعى إلى إسكات الإعلام، بل إلى فرض حالة دائمة من الحذر.

ربّما تكون النتائج الملموسة التي حقّقها ترامب في بعض الدعاوى السابقة أبرزَ ما يُظهر فعّاليّة هذه الاستراتيجية. ففي عام 2024، أجبرت دعواه شبكة ABC News على تسوية ماليّة بقيمة 15 مليون دولار، مع اعتذار علنيّ عن تصريحات اعتُبرت تشهيراً. وفي عام 2025، اضطرّت شبكة CBS إلى تعديل برنامج Minutes 60 ودفع تعويضات بعد اتّهامها بالتلاعب بمقابلة مع كامالا هاريس. ليست هذه التسويات استثناءات، بل دليل على أنّ التقاضي لم يعد استعراضاً رمزيّاً فقط، بل أداة تحقّق مكاسب ماليّة وسمعيّة وتزيد من تكلفة المواجهة على المؤسّسات الإعلاميّة.

تهدف الدعاوى القضائيّة ضدّ الإعلام، وخصوصاً تلك المتعلّقة بأحداث مفصليّة مثل اقتحام الكونغرس، إلى الطعن الممنهج في كيفيّة توثيق هذه اللحظات

عقيدة متكاملة

يدرك ترامب أنّ الإرث لا يكتبه المؤرّخون وحدهم، بل تصنعه الأرشيفات، الوثائقيّات والذاكرة المؤسّسيّة. تهدف الدعاوى القضائيّة ضدّ الإعلام، وخصوصاً تلك المتعلّقة بأحداث مفصليّة مثل اقتحام الكونغرس، إلى الطعن الممنهج في كيفيّة توثيق هذه اللحظات.

من خلال الاعتراض على الصياغة، المونتاج والاختزال، يسعى ترامب إلى إدخال روايته الخاصّة في السجلّ التاريخيّ الرسميّ. حتّى القضايا التي لا تُكسبه حكماً قانونيّاً تترك وراءها ملفّات ومرافعات ونقاشات عامّة تجعل من المستحيل إغلاق السرديّة نهائيّاً.

بالنسبة له، الجدل الدائم أفضل من حكم أخلاقيّ قاطع يدينه ويشوّه سمعته ويقلّل من إنجازاته.

ما بدأ في عام 2016 ردّ فعل طبيعيّاً على تغطية معادية تطوّر اليوم إلى عقيدة متكاملة. لم يعد صِدام ترامب مع الإعلام تكتيكاً ظرفيّاً، بل مشروع أيديولوجيّ. يقدّم نفسه سياسيّاً وحيداً يجرؤ على مواجهة “النظام الإعلاميّ العالميّ”، محلّيّاً ودوليّاً.

ليس هدف ترامب النهائيّ الفوز بقضيّة، ولا حتّى تحسين موقعه الانتخابيّ فقط، بل أن يُذكر أنّه الشخصيّة التي أعادت تعريف العلاقة بين السلطة والإعلام. حتّى منتقدوه باتوا يعملون في بيئة إعلاميّة شكّلها أسلوبه: جمهور منقسم، ثقة متآكلة وتشكُّك دائم في النوايا الصحافيّة.

إقرأ أيضاً: لماذا “الانبهار” الأميركيّ بالشّرع؟

قد يحكم التاريخ على سياساته أو أسلوبه بصرامة، لكنّ ترامب يراهن على أن يُسجَّل له أنّه غيّر قواعد الاتّصال السياسيّ في العصر الرقميّ بحيث باتت تتقاطع الدعاوى القضائيّة مع الاستعراض الإعلاميّ والصدام المستمرّ.

ليست دعوى BBC، في هذا السياق، استثناءً، بل حلقة في استراتيجية تعتبر الصراع مع الإعلام درعاً وسيفاً في آن: وسيلة للدفاع عن السمعة، حشد الأنصار وصناعة إرث قائم على المواجهة الدائمة لا على التوافق.

هل تصبح مقاضاة الإعلام الدوليّ نمطاً جديداً للسياسيّين الشعبويّين أم ترامب، كعادته، يسبق الجميع بخطوة؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mouafac

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ…

من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق…