حين تختار اللّغة أميرها

مدة القراءة 7 د

ما اجتمعت اللغة العربيّة بذائقة مرهفة وفكرة لمّاحة وروح شبقة إلّا واستحال الاجتماع مهيباً وساحراً. كم من نصّ عاش رغم بساطته، وكم من قصائد راحت تذوي وتضمحل رغم صلابتها وتراصفها، فالفيصل كان وسيبقى القدرة على ابتكار هذا المزيج وعلى تطويع اللغة وترويضها لتصير صنو الصوت خفيفة، رشيقة وآسرة، يظنّها العابرون في متناول أيديهم، لكنّها على سجيّة السهل الممتنع تركع أمام أميرها وتستعصي على سواه.

 

 

ليست اللغة العربيّة، على خلاف ما يُشاع، لغة صعبة، بل لغة متحفّظة. لا تُسلّم مفاتيحها بسهولة، ولا تمنح سرّها لمن يطلبه بلا صبر أو مراودة. هي لغة تُراوغ، تُجيد الاختبار وتضع كاتبها وقارئها في امتحان طويل النفَس. تفتح نافذة صغيرة، ثمّ تغلق باباً واسعاً، وتتركك معلّقاً بين رغبتين متناقضتين: أن تفهم، وأن تُفتَن.

هي لغة لا تحبّ من يتعامل معها كغنيمة، بل كعلاقة. من يطلبها كاملة منذ السطر الأوّل يخسرها، ومن يقبل أن يتعلّمها جملةً جملة، ونبرةً نبرة، تفتح له أبوابها على مهل، كأنّها تكافئ التواضع قبل الموهبة. لكلّ كلمة فيها تاريخها الخاصّ، ولكلّ تركيب وقْع شعوريّ يختلف بحسب من يقرؤه ومن يكتبه.

ليست اللغة العربيّة، على خلاف ما يُشاع، لغة صعبة، بل لغة متحفّظة. لا تُسلّم مفاتيحها بسهولة، ولا تمنح سرّها لمن يطلبه بلا صبر أو مراودة

المعاشرة لا الاستعمال

ليست اللغة العربيّة ديمقراطيّة في عطاياها. لا تمنح سرّها لكلّ من يطرق بابها. قد تفتح لك نافذة صغيرة، لكنّها لا تهبك قلبها إلّا إذا أثبتَّ أنّك أهلٌ للصبر عليها، وأهلٌ للانتظار الطويل في عتمة الجملة قبل أن تشرق. هي لغة تتمنّع على الكسالى، وتخاصم المستعجلين، وتسخر من أولئك الذين يظنّون البلاغة زينة لفظيّة أو استعراض مهارة.

ليست اللغة العربيّة أداة استعمال، بل علاقة معاشرة طويلة. من يدخلها بعجلة يخرج منها مثقلاً بالضجيج، ومن يقيم طويلاً في ظلالها تُكافئه بما لا يُسمّى. قصائد عنترة ومعلّقاته رفعته من أسفل درك العبوديّة إلى أرفع مراتب الخلود. أوّل دليل مكتمل الإدهاش رفعه النبيّ الأمّيّ في وجه قريش كان صلابة البيان وروعة البديع. أمّا نهج البلاغة فقد صار الوجه الموازي تماماً لكلّ فتوّة عليّ بن أبي طالب وبأسه وسيفه ورباطة جأشه.

في زمن السرعة، تبدو اللغة العربيّة كائناً من زمن آخر. لا تجيد اللهاث، ولا تحبّ الاختصار القسريّ. تحتاج إلى قارئ مستعدّ لأن يتوقّف، أن يُبطئ وأن يترك للجملة وقتها. ولهذا يخسرها كثيرون، لا لأنّها صعبة، بل لأنّها لا تُساير العجلة، ولا تُكافئ الاستسهال.

كتب تقيّ الدين الصلح ورقة نعوَته بخطّ يده، قبل عشر سنوات من غفوته الأبديّة. لا مكان للعجالة مع اللغة. وهو الذي ظلّ ينحت على مدى أسابيع رسالة إلى الشيخ زايد، يحث فيها أمير المياه على يناء سدّ مأرب.

هو صراع دائم ومستدام بين من مارسوها ومن عشقوها. الأوائل استخدموها ثمّ انصرفوا، فذبل أثرهم سريعاً. والآخرون ذابوا فيها، فبقيت أسماؤهم عالقة في الذاكرة، حتّى وإن خفتت نصوصهم أو شاخت سياقاتهم. ليست العبرة في الخلود، بل في الأثر. في تلك الرجفة الخفيفة التي تصيب القارئ بعد سطر موفّق، أو في ذلك الصمت الطويل الذي يعقب قصيدة أصابت مقتلاً ما في الداخل.

ليست اللغة العربيّة ديمقراطيّة في عطاياها. لا تمنح سرّها لكلّ من يطرق بابها. قد تفتح لك نافذة صغيرة، لكنّها لا تهبك قلبها إلّا إذا أثبتَّ أنّك أهلٌ للصبر عليها

المجد لا يُترجَم

اللغة العربيّة، حين تُمسك بزمامها روح حقيقيّة، تتحوّل إلى كائن شهوانيّ: تلمُس، وتغوي، وتُراوغ، وتمنح، ثمّ تنسحب فجأة. هي أشبه بامرأةٍ مغناج: لا تسلّم نفسها دفعة واحدة. ولهذا تبدو أجمل ما تكون في لحظات الانكسار، وفي النصوص التي كُتبت من حافة اليأس أو من فائض الحبّ. لا تزدهر في الطمأنينة، بل في القلق. لا تتألّق في اليقين، بل في السؤال. هي لغة الذين لا يملكون أجوبة نهائيّة، لكنّهم يصرّون على صياغة أسئلتهم بأقصى درجات العذوبة.

قيل إنّ متذوّقاً متحمّساً حطّ ذات مرّة في دارة سعيد عقل، طالباً الإذن بترجمة نصوصه وقصائده من العربيّة إلى الفرنسيّة. وافق الرجل على استحياء، وربّما على مضض، ثمّ اشترط أن يقرأ النصوص قبل نشرها. غاب الضيف سنتين كاملتين، وعاد وفي يده ما ظنّه أفضل الممكن وأقصى المتاح. تفحّصه سعيد عقل على عجل، ثمّ ما لبث أن استشاط غضباً كعادته، فحمل الترجمة إلى أقرب سلّة مهملات، وقال لصاحبها: أخبرتك أنّ المجد لا يُترجَم. الروح لا تنتقل. ما تدركه العربيّة لا تلامسه كلّ لغات الأرض.

في هذه الحكاية، لا يدافع سعيد عقل عن نفسه بقدر ما يدافع عن اللغة بوصفها تجربة لا نصّاً، وكياناً لا مضموناً. هي حكاية تحذير لكلّ من يحاول حصر اللغة في جملة أو فكرة أو ترجمة.

تبدو اللغة العربيّة شديدة المكر على الترجمة. يمكن نقل المعنى، لا الرجفة. يمكن شرح الفكرة، لا الأثر. واللغة العربيّة، في أجمل حالاتها، ليست فكرة تُفهم، بل أثر يُصيب. نصّها الحقيقيّ لا يُقرأ مرّة واحدة، بل يُعاد، لا طلباً للوضوح، بل استعادة لتلك الدهشة التي لا تنضب.

لا يُستغرب أن يكون كبار مبدعي العربيّة على تماسّ دائم مع الجنون. ليس الجنون هنا خللاً عقليّاً، بل فائض حساسيّة. زيادة في الاستقبال. قدرة على التقاط ما يفلت من العابرين. العربيّ المبدع لا يكتب اللغة، بل تُكتب فيه. تمرّ من خلاله كما تمرّ النار في الحطب المختار، لا تحرقه كليّاً، لكنّها تغيّره إلى الأبد. ولذلك، لا يخرج الشاعر أو الكاتب من تجربته سالماً، بل أعمق جرحاً، أشد صفاءً وأكثر وحدة.

اللغة العربيّة، حين تُمسك بزمامها روح حقيقيّة، تتحوّل إلى كائن شهوانيّ: تلمُس، وتغوي، وتُراوغ، وتمنح، ثمّ تنسحب فجأة

كائنٌ من زمن آخر

هي لغة لا تحبّ الكمال، ولا تثق بالجملة المصقولة أكثر من اللازم. تحتاج إلى شرخ صغير، إلى خللٍ محسوب، إلى مساحةٍ يتنفّس فيها المعنى. لذلك، ارتبط إبداعها دوماً بنوعٍ من الجنون الجميل: جنون لا يعني الفوضى، بل فائض الحساسيّة.

ليس مصادفة أن يكون كبار اللغة العربيّة شعراء، حتّى حين كتبوا نثراً. فالنثر الحقيقيّ ليس نثر فكرة بقدر ما هو نثر نبرة. لا يقوم على البرهان، بل على الإيقاع الداخليّ. لا يقنع القارئ، بل يُقيم فيه. وحين تغيب النبرة، يصبح النصّ صحيحاً لغويّاً، فارغاً شعوريّاً، يُقرأ ويُنسى، كأنّه لم يكن.

اللغة العربيّة لا تُجامل من يطلبها بلا ثمن. تحتاج إلى عزلة، إلى بطء، إلى استعداد للخطأ والتردّد. تحتاج إلى كاتب يقبل أن يضلّ طريقه داخل الجملة، وأن يعيد صياغتها مراراً، لا طلباً للإتقان، بل بحثاً عن تلك اللحظة النادرة التي تستقيم فيها العبارة فجأة.

إقرأ أيضاً: إسكندر حبش… كتب ليُصغي ومات كجملةٍ لم تكتمل

ليست اللغة العربيّة لغةً تُستعمل، بل كائن يُعاش. لا تدخلها كما تدخل بيتاً مستأجَراً، بل كما تدخل قدَراً. من يظنّها أداة تواصل فحسب، يظلمها ويظلم نفسه، فهي ليست جسراً بين معنيَين، بل بحرٌ تتصارع في أعماقه الدلالة والظلال والإيحاء.

هي اللغة الأجمل والأقوم والأكمل بلا منازع، لكنّها تظلّ باهتة وخجولة حتّى تتعرّف إلى أميرها. حينها، وحينها فقط، تصير شهيّة وفاتنة وفتّاكة وهائلة. فتحيّة لهذه اللغة البديعة في يومها العالميّ، وتحيّة مماثلة لكلّ المجانين الذين لاعبوها وداعبوها، فجنّوا معها وجنّنوها، ثمّ سكروا بها وأسكروها، والذائقة مذّاك لا تبارح الثمالة.

*بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية

 

لمتابعة الكاتب على X:

@kassimyousef

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

“أبو عمر”… سوسيولوجيا بُنية التّبعيّة

حين تتصدّر أخبار حدّاد سيّارات من وادي خالد عناوين الصحافة العربيّة والدوليّة، لأنّه نجح لبرهة في انتحال شخصيّة أمير سعوديّ وابتزاز البعض في نادي الطبقة…

سقوط سرديّة المقاومة على طريقة طهران

لا تسقط فكرة المقاومة ما دام الاحتلال قائماً. لكنّ المحور الإيرانيّ استهلك هذه الفكرة، واستنفدها إلى درجة كبيرة، بعد مَهَالك حرب السنتين (2023-2025). ما سقط…

ترامب – نتنياهو: اختبار حدود التحالف..

قبل أيّام من وصول رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، يسود في العواصم المعنيّة شعور ثقيل بأنّ الزيارة تتجاوز طابعها الثنائيّ المعتاد. ليست محطّة…

صفقة بنغازي: لماذا تُسلِّح باكستان حفتر؟

في 23 كانون الأوّل الجاري سقطت طائرة تقلّ وفداً ليبيّاً عسكريّاً رفيع المستوى في طريق العودة من زيارة لأنقرة. قضى كلّ الركّاب بمن فيهم رئيس…