الصيغة السورية: مرونة تمنع التفلّت أو الاختناق

مدة القراءة 6 د

لم تدخل سوريا مرحلة “ما بعد الأسد” عبر بوابة الاستقرار، بل عبر بوابة الأسئلة المفتوحة. الدولة الممزقة بحرب طويلة وخراب اقتصادي غير مسبوق، تواجه اليوم امتحان وحدتها الوطنية في ظل وجود مناطق شبه مستقلة تتمتع بسلطات سياسية وعسكرية مكرّسة على الأرض: شمال شرق البلاد تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، جنوب يشهد تمكيناً درزياً مدعوماً من إسرائيل، وساحل علوي يغلي بحركات تمرّد مدنية ومسلّحة تعكس توتراً متزايداً بين المركز والهامش.

 

سقوط النظام السابق لم يُسدِل الستارة على النزاع، بل كشف هشاشة البناء الوطني نفسه. مع كل إعلان عن إعادة توحيد الدولة أو توسيع رقعة الشرعية، كان يظهر على السطح سؤال أكبر وأخطر: هل لا تزال سوريا قابلة للبقاء دولة مركزية، أم أنّ الفيدرالية صارت قدراً لا مفرّ منه؟

لم تدخل سوريا مرحلة “ما بعد الأسد” عبر بوابة الاستقرار، بل عبر بوابة الأسئلة المفتوحة

مواجهة الإرث القديم

ترث حكومة أحمد الشرع دولة منهكة، لا فقط بسبب الحرب، بل بسبب عقود من حكم مركزي شديد القسوة دفع مكوّنات المجتمع السوري إلى خيارات قصوى: الانفصال، أو الفيدرالية، أو الحدّ الأدنى من الحكم الذاتي.

مع تسارع الانهيار الاقتصادي، أصبح الدعم الدولي مشروطاً بتقدّم سياسي ملموس، وبخطة واضحة لتجنب تكرار النموذج العراقي أو الليبي. إلا أنّ الواقع أثبت أنّ تجاوز الانقسامات الطائفية والقومية ليس مسألة قرارات سياسية فقط، بل مسألة ثقة مفقودة. الأكراد في شرق الفرات يملكون ثقلاً ديموغرافياً واقتصادياً لا يمكن تجاهله، والدروز يشعرون بأن لحظتهم التاريخية لانتزاع وضع خاص قد اقتربت، والعلويون ينظرون بعين الريبة إلى أن حكومة ذات خلفية إسلامية قد تتجاوزهم.

حين وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع مع قائد “قسد” مظلوم عبدي اتفاق دمج شمال شرق سوريا، بدا المشهد كأنه بداية طريق نحو إعادة هيكلة الدولة على أسس جديدة. لكن اشتباكات الساحل بين الجيش وميليشيات علوية، ثم انفجار الوضع في السويداء، أرسلت رسالة قاتمة: والسلاح ما زال أقوى من السياسة.

لم يكن تجميد تنفيذ الاتفاق مع “قسد” مجرد أزمة تقنية، بل مؤشر على تراجع الثقة في قدرة المركز على صون التفاهمات.

ترث حكومة أحمد الشرع دولة منهكة، لا فقط بسبب الحرب، بل بسبب عقود من حكم مركزي شديد القسوة

الفيدرالية… خيار أم فخّ؟

تتقدّم الفيدرالية اليوم كخيار سياسي مغرٍ في نظر بعض القوى المحلية مدعومة قوى غربية، وتحديداً في إسرائيل والولايات المتحدة، حيث يجري تسويقها باعتبارها “الحل الوحيد” لتجنب الصراع. لكن هذا الطرح يثير مخاوف حقيقية داخل سوريا وخارجها:

  • الفيدرالية على الطريقة العراقية: بدلاً من بناء دولة قوية، خلقت مراكز قوى مناطقية يتحكم فيها زعماء محليون مدعومون بميليشيات. الحكم الذاتي أبدل الديكتاتور المتحكم بالبلد بديكتاتور صغير يتحكم بإقليم أو بمحافظة. سمحت لشبكة معقدة من الجماعات المسلحة باستخدام العنف لممارسة السياسة، والسيطرة على الخصوم، وقمع النشاط السياسي.

السيناريو لن يختلف في سوريا، حيث تُظهر التقارير أنّ الجماعات المسلحة لا تزال تمارس سلطتها خارج نطاق القانون، حتى في بعض المدن التي تقع تحت سيطرة الحكومة.

  • صراع على الموارد: النفط في شرق الفرات في قبضة “قسد” والاكراد، المرافئ البحرية في الساحل الغربي بمحاذاة مناطق العلويين، الزراعة في الجنوب في السويداء خصوصاً، وكل مكوّن سيقاتل للاحتفاظ بما في يده.
  • التداخل الديموغرافي: لا منطقة سورية ذات لون واحد؛ أي محاولة للفصل الجغرافي ستعني تهجيراً قسرياً وحروب حدود جديدة. لا بل قبل ذلك ستعني صراعاً بين المكونات نفسها: “قسد” تواجه خلافاً كردياً- كردياً قد تزداد وتيرته مع اعلان زعيم حزب العمال الكردستاني في تركيا عبد الله أوجلان القاء السلاح، فضلاً عن صراعها الدائم مع العشائر العربية في الرقة ودير الزور. حال السويداء ليس أفضل بعد الخلافات بالسلاح بين أنصار الشيخ حكمت الهجري وخصومه من أبناء الطائفة ذاتها والرفض الدرزي الواسع والمؤثر للعلاقة مع اسرائيل.
  • التدخل الإقليمي المباشر: إسرائيل تلعب في ملعب الدروز، أميركا مع الأكراد، لكنها لاتقطع الشعرة مع انقرة، أعين روسيا وايران لاتزال على العلويين، تركيا حليفة الشرع وحكومته، وكلٌّ يريد نصيبه من سوريا اللامركزية.
  • الرفض العربي: الدول العربية ترى أنّ تقسيم سوريا سيكون عدوى تنتقل إلى العراق ولبنان وربما دول أخرى.

لهذا تبدو الفيدرالية في سوريا، بعكس نماذج أوروبا أو الهند، أقرب إلى وصفة لصراع طويل الأمد منها إلى حلّ دائم.

الحل ليس في الفيدرالية كما يروّج لها البعض، ولا في المركزية الصارمة التي يريدها آخرون، بل في إعادة بناء عقد اجتماعي جديد يضمن الحقوق، ويخفف المخاوف

أخطاء الحكومة الجديدة

لا يمكن قراءة الاعتراضات على الفيدرالية بمعزل عن سياسات حكومة الشرع، التي يرى كثيرون أنها أعادت إنتاج مركزية انتقائية شبيهة بالنظام السابق، عبر: تسريح 400 ألف موظف حكومي، منح رتب عسكرية لمقاتلين أجانب، إعلان دستوري مثير للجدل، تأجيل الانتخابات في 3 محافظات، وبروز نفوذ “هيئة تحرير الشام” داخل مؤسسات الدولة.

هذه الإجراءات غذّت مخاوف الأقليات من أنّ الدولة المركزية الجديدة ليست أكثر تسامحاً من الدولة القديمة، بل ربما أكثر تشدّداً.

سوريا اليوم بحاجة إلى صيغة وسط: دولة قوية لا تُقصي أحداً، لكن ليست مركزية إلى حدّ الاختناق، لامركزية إدارية موسّعة، لكن من دون تحويلها إلى بوابة للفيدرالية الطائفية، تقاسم عادل للموارد، ودمج أمني تدريجي، ودستور مرن يطمئن الجميع.

الحل ليس في الفيدرالية كما يروّج لها البعض، ولا في المركزية الصارمة التي يريدها آخرون، بل في إعادة بناء عقد اجتماعي جديد يضمن الحقوق، ويخفف المخاوف، ويعيد الاعتبار لمفهوم الدولة الجامعة.

إقرأ أيضاً: اغتيالات هزّت نظام الأسد (4/4): مَن “قنصَ” باسل الأسد؟

إنّ أخطر ما يواجه سوريا اليوم ليس الانقسام الجغرافي، بل الانقسام النفسي والسياسي بين مكوّناتها. والسؤال الحقيقي ليس: هل نعتمد الفيدرالية أم لا، بل: هل تستطيع الدولة الجديدة أن تنتج نموذجاً سياسياً يشعر فيه كل سوري بأنه شريك كامل، لا تابع ولا مستبعد؟

إذا فشلت دمشق في بناء هذا النموذج، فإن الفيدرالية لن تكون خياراً مطروحاً على الطاولة،  بل واقعاً مفروضاً على الأرض، وربما مقدّمة لفصل جديد من حرب لم تنتهِ يوماً.

مواضيع ذات صلة

صفقة بنغازي: لماذا تُسلِّح باكستان حفتر؟

في 23 كانون الأوّل الجاري سقطت طائرة تقلّ وفداً ليبيّاً عسكريّاً رفيع المستوى في طريق العودة من زيارة لأنقرة. قضى كلّ الركّاب بمن فيهم رئيس…

هل دقّت ساعة الحسم المصريّ في السّودان؟

يكاد يكون الفصل بين مصر والسودان مستحيلاً. النيل، شريان الحياة في البلدين، لا يربط الجغرافيا فحسب، بل يؤسّس لوحدة مصير تتجاوز الحسابات السياسيّة المتغيّرة. ما…

لماذا يقصف الأردن السّويداء الآن؟

في سماء السويداء، حيث اعتادت الطيور أن تكون الكائن الوحيد الذي يعبر الحدود من دون إذن، ظهرت الطائرات الحربيّة الأردنيّة بوصفها علامة على تحوّل أعمق…

عبّاس للدّاخل والخارج: لا تراجع عن الإصلاحات

في خطوة تُعدّ من أندر الخطوات التي قام بها منذ تولّيه سدّة الرئاسة الفلسطينيّة، أصدر الرئيس محمود عبّاس بياناً شخصيّاً في الرابع والعشرين من كانون…