البنوك في مواجهة “الفجوة”: نحن (الأمر) “الواقع”

مدة القراءة 7 د

استنفرت البنوك في مواجهة قانون الفجوة الماليّة، وأصدرت جمعيّة المصارف بياناً تضمّن جملة مفتاحيّة: “يجب التعامل مع الواقع”. والواقع في نظرها أنّ “إمكانات البنوك التجاريّة محدودة، ولا يمكنها المساهمة إلّا بما يتناسب مع قدرتها الماليّة على التسديد”.

 

 

يشبه النقاش في قانون الفجوة الماليّة (الانتظام الماليّ واسترداد الودائع) النقاشات السياسيّة في مرحلة ما قبل اتّفاق الطائف. في الدولة والحكومة من يقول إنّ البنوك لا يمكنها أن تحتفظ بثرواتها وتخرج منتصرة من الأزمة (الحرب)، وإنّ عليها أن تتحمّل قسطاً من الخسائر يعادل كامل رؤوس أموالها، فيما تقول البنوك: نحن (الأمر) الواقع، ويجب التعامل معنا.

استنفرت البنوك في مواجهة قانون الفجوة الماليّة، وأصدرت جمعيّة المصارف بياناً تضمّن جملة مفتاحيّة: “يجب التعامل مع الواقع”

الدّولة تضغط

المثير في هذا النقاش أنّه تأطّر عمليّاً في قاعدتين ضمنيّتين:

  1. سيتحمّل المودعون الجزء الأكبر من خسائر الأزمة، إمّا بوسائل لإثبات عدم مشروعيّة جزء كبير من الودائع، وإمّا بعكس الفوائد، وإمّا بالهيركات المقنّع، وإمّا بالتقسيط إلى يوم القيامة.
  2. حصر تكلفة الاستعادة الجزئيّة والمقسّطة للودائع بثلاث جهات: مصرف لبنان ثمّ المصارف والدولة، واستبعاد الجهات الأخرى التي انتقلت إليها الثروة، من مقترضين وتجّار استفادوا من الدعم وفروقات أسعار الصرف في تحصيل الضرائب ومنصّة “صيرفة” وغيرها.

ربّما ليس الموضوع الأساس للنقاش العميق في الأيّام الماضية ما يستعيده المودعون من أموالهم، فهؤلاء هم الحلقة الأضعف، بل البنوك وما تتحمّله من تكاليف، وما يبقى لديها من قوّة ماليّة بعد تصفية الأزمة.

حرّكت الدولة أوراق الضغط، وربّما يُدرج في إطارها الطلب الذي أحاله النائب العامّ الماليّ ماهر شعيتو من أجل معلومات عن تحويلات مسؤولي البنوك بين منتصف عام 2019 ونهاية 2022، بمن فيهم رؤساء مجالس الإدارة وأعضاء مجلس الإدارة والمديرون العامّون ومديرو الفروع والمفوّضون بالتوقيع وأزواج هؤلاء وزوجاتهم، الحاليّون منهم والسابقون.

في المقابل، تعود جمعيّة المصارف إلى التوصيف الأساس لسلسلة الالتزامات والتعثّرات: البنوك مدينة للمودعين بنحو 85 مليار دولار، ومصرف لبنان مدين للمصارف بنحو 83 مليار دولار. فلو أنّ مصرف لبنان التزم ما عليه لتمكّنت البنوك من التزام ما عليها. وبالمسؤوليّة القانونيّة المجرّدة، وبحسب قانون النقد والتسليف، عندما يقع مصرف لبنان في الخسائر تقع على الدولة مسؤوليّة إعادة رسملته. وهذا التوصيف المجرّد سليم، لكنّه يتجاوز توصيف ما جرى قبل الأزمة وخلالها.

في الولايات المتّحدة فُتح الباب أمام مساهمات خاصّة من مستثمرين سياديّين حين انهارت مؤسّسات كبرى مثل “سيتي غروب” و”بنك أوف أميركا”

أولى خطوات المحاسبة قرار شعيتو

تطرح جمعيّة المصارف أربعة مبادئ للحوار في شأن الفجوة، لا غبار على معظمها، لكنّ الإشكال الكبير يكمن في تطبيقاتها، وهي، بشيء من التصرّف:

  1. ضمان وفاء مصرف لبنان والمصارف بالتزاماتهما تجاه المودعين، وضمان الدولة لمصرف لبنان بموجب قانون النقد والتسليف.
  2. ضمان استمراريّة القطاع المصرفيّ وضمان استعادته للثقة والصدقيّة.
  3. تخصيص ما يلزم من أصول مصرف لبنان لاستعادة الودائع، والحدّ “بشكل كبير” من تحميل العبء للمصارف.
  4. إعادة بناء الثقة بالاقتصاد من خلال استعادة النموّ.

يجب أن لا يكون مطروحاً مبدأ تصفية المصارف، كعنوان كبير شامل، لكنّ هذا لا يعني استمرار كلّ المصارف، بغضّ النظر عن حجمها وأهميّتها النظاميّة وملاءتها الرأسماليّة، ولا يعني بأيّ حالٍ إعفاءها من تحمّل مسؤوليّتها عن الأخطاء، وقسطها من الأعباء. ولذلك لا يمكن لجمعيّة المصارف أن تتوسّع في مبدأ الاستمراريّة لتعفي نفسها من تحمّل أعباء إعادة الرسملة والمحاسبة. وأولى خطوات المحاسبة معرفة ماذا فعل مسؤولو البنوك في فترة الأزمة وقُبيلها، ولو اقتضى الأمر إصدار تشريع خاصّ لكشف المعلومات التي طلبها القاضي شعيتو.

تعني استمراريّة القطاع المصرفيّ أن يوضع أصحاب البنوك أمام خيارين: إمّا أن يتدبّروا أمر إعادة الرسملة بأنفسهم، وإمّا أن تتولّى الدولة ضخّ الأموال في البنك، لكن ليس مجّاناً، بل تترتّب عليه تحوّلات في الملكيّة والإدارة.

هذا بالضبط ما حدث في بريطانيا والولايات المتّحدة إثر الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008. ففي بريطانيا، حين عجز مساهمو “رويال بنك أوف اسكوتلاند” (RBS) عن إنقاذ مصرفهم، لم تتدخّل الدولة لحمايتهم، بل لحماية النظام الماليّ، مقابل استحواذها على نحو 82% من أسهم البنك وتغيير إدارته وتحويل المساهمين القدامى إلى شركاء ثانويّين في مصرف أُعيد بناؤه بشروط عامّة صارمة. في المقابل، سعى مصرف “باركليز” بكلّ طاقته لتفادي هذا المصير، فلجأ إلى تمويل مكلف من مستثمرين سياديّين، في مقدَّمهم قطر، مفضّلاً تخفيف حصص المساهمين ودفع ثمن رأسمال مرتفع على الخضوع لملكيّة الدولة.

في الولايات المتّحدة فُتح الباب أمام مساهمات خاصّة من مستثمرين سياديّين حين انهارت مؤسّسات كبرى مثل “سيتي غروب” و”بنك أوف أميركا”، بينهم مستثمرون من الخليج. لكن عندما تبيّن أنّ رأس المال الخاصّ غير كافٍ، تدخّلت الخزانة الأميركيّة عبر برنامج TARP بشروط صارمة، شملت تحويل جزء من الدعم إلى أسهم، وتقييد المكافآت، وفرض رقابة مباشرة على الإدارة، فتراجعت على نحو حادّ قيمة حصص المساهمين القدامى. لم تُستخدم ودائع الأميركيّين لتمويل الإنقاذ، ولم يُطلب من المودعين تحمّل الخسائر، بل تحمّلها رأس المال الخاصّ أوّلاً، ثمّ الدولة مقابل ملكيّة وتأثير فعليّ.

في الكويت عام 2008، حين تعثّر أحد المصارف الكبرى، فقام البنك المركزيّ بتغيير مجلس الإدارة، وتمّ تعيين رئيس تنفيذيّ جديد

حدثت في الكويت تجربة شبيهة عام 2008، حين تعثّر أحد المصارف الكبرى، فقام البنك المركزيّ بتغيير مجلس الإدارة، وتمّ تعيين رئيس تنفيذيّ جديد، وقام مجلس الإدارة الجديد بطرح زيادة رأس المال، وأُعطي المساهمون الحقّ في الاكتتاب، لكنّهم لم يكتتبوا، فقام الصندوق السياديّ بالتغطية، وظلّ البنك لسنوات طويلة تحت الإدارة المستقلّة، إلى أن سُمح لبعض المساهمين الأصليّين بالعودة إلى الإدارة بشروط صارمة.

إنشاء صندوق سياديّ خارج البنك المركزي

المبدآن العامّان هنا واضحان:

  • استمرار القطاع ككلّ، لا سيما البنوك ذات الأهمّية النظاميّة ما أمكن ذلك، وليس كلّ بنكٍ من البنوك.
  • عدم ضياع الودائع بسبب تصفية أيّ بنك أو دمجه لأنّ سلامة الودائع تقع على عاتق الجهات الرقابيّة والدولة.

إقرأ أيضاً: صندوق استرداد الودائع: “هيركات” بمكياج قانونيّ

الإشكال الكبير في لبنان أنّه لا توجد جهة يمكن أن تتولّى إعادة رسملة المصارف إذا تقاعس المساهمون أو فشلوا. فالدولة اللبنانية ليست الحكومة البريطانيّة أو الحكومة الفدراليّة الأميركيّة، وليس ثمّة صندوق أو جهة سياديّة تستطيع القيام بهذه المهمّة، ولا يجوز أن توكل هذه المهمّة إلى مصرف لبنان لأنّ ذلك هو النقيض المباشر لِما هو مطلوب الآن من إعادة ضبط وظائف المصرف المركزيّ بعد ثلاثة عقودٍ من التوسّع والانفلاش.

لكلّ ذلك، لا بدّ من إنشاء صندوق سياديّ للتعافي، تُنقل إليه الأصول المسمومة من مصرف لبنان، ومعها أصول جيّدة تكفل إعادة الودائع، وإعادة رسملة القطاع المصرفيّ. وقبل ذلك لا بدّ من الإقرار بأنّ البنوك لا يمكنها أن تخرج من الأزمة كما دخلت. لا يمكن الخروج من هذه الأزمة كما خرج لبنان من الحرب، حين قال الأقوياء مقولة المصارف نفسها: “يجب التعامل مع الواقع”؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

نقل معاكس للثروة: استعادة 30% من القروض المسددة بالليرة

سيظل النقاش ساخناً حول معادلة إعادة الودائع التي حملها مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، حتى بعد إقراره في مجلس الوزراء، لكن الجديد في النسخة…

“اختراق” المصارف للجان النيابية يعرقل حق المودعين

انقضى عامٌ من عمر الحكومة الحاليّة في لبنان ولم تتحقّق الآمال التي كانت معلّقة عليها. عمر هذه الحكومة، مبدئيّاً، هو ثمانية عشر شهراً تنتهي في…

صندوق استرداد الودائع: “هيركات” بمكياج قانونيّ

خرجت مسوّدة قانون الفجوة الماليّة بفلسفة جديدة تقوم على نقل الودائع القديمة من ميزانيّات المصارف إلى صندوق استثماريّ مشترك ينشئه مصرف لبنان، باسم “صندوق استرداد…

هجومٌ منسّق على “جديّة” مصرف لبنان

الإجراءات التي يفرضها مصرف لبنان للتضييق على التداول بالنقد الأجنبيّ لا تنطلق من اعتبارات سياسيّة، ولا هي خدمة لأطراف خارجيّة. إنّها تدابير يتّخذها المصرف انطلاقاً…