حين جلس سعد الحريري بحضرة المرشد الأعلى في طهران، وكان يومذاك رئيساً للحكومة، قصّ علي خامنئي على مسامعه ومسامع الحاضرين حكاية إزميرالدا في رواية “أحدب نوتردام”، وهي سيّدة ذكيّة وباتعة الجمال، كانت محطّ الأنظار والأطماع، لذلك قرّرت أن تحمل خنجراً لتحمي به نفسها. يستطرد الوليّ الفقيه ليُسقط القصّة على الواقع: إزميرالدا هي لبنان. وخنجرها هو “الحزب” الذي يحمل اسم الله.
كان الأجدى بوزير خارجيّة لبنان أن يُلبّي دعوة نظيره إلى زيارة طهران، لا أن يعتذر. أصل التلبية يستند أوّلاً إلى الحقّ، وصاحب الحقّ سلطان، يقول كلمته كما يجب أن تُقال، من دون مواربة أو مراوغة أو تنميق. نحن أصحاب حقّ وأصحاب سرديّة تاريخيّة ضاربة ومتجذّرة، نمتلك من الأهليّة ومن التجارب ومن المحن ما يُخوّلنا أن ندلو بدلونا في واحد من أعنف المنزلقات السياسيّة والاجتماعيّة التي عرفها لبنان في تاريخه.
لذلك كان لزاماً على يوسف رجّي أن يقتنص الفرصة لفتح نقاش عاقل وازن وصلب ومستفيض، ليس في بيروت، ولا في أيّ عاصمة محايدة، بل في قلب طهران نفسها، وعلى مرأى العالم ومسمعه، بدل الهروب السريع تحت وابل من الشعبويّات.
حين جلس سعد الحريري بحضرة المرشد الأعلى في طهران، قصّ خامنئي على مسامعه ومسامع الحاضرين حكاية إزميرالدا في رواية “أحدب نوتردام”
اختراع الوظائف
إيران دولة معتدية. اعتدت على لبنان وعلى استقراره وعلى دوره وعلى نسيجه السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والدينيّ، وقد بنت لهذا الاعتداء سرديّة مركّبة ومعقّدة. مفادها أنّ قوّة لبنان هي في ترسانته الناريّة لا في خصوصيّته السياسيّة. وأنّ دوره الحقيقي ليس في كونه مساحة لقاء أو رسالة تعايش، بل في البقاء شوكة عسكريّة متوثّبة عند خاصرة إسرائيل. وهذا ليس خيار الشيعة فحسب. بل قدر كلّ اللبنانيّين. حيث لا حلّ إلّا بمواجهة مفتوحة وعداء مستدام مع كيان توسّعيّ ودمويّ هجين لا يعترف بحدود أو خرائط.
الكثرة الكاثرة من اللبنانيّين لم تُسلّم بهذه السرديّة على الإطلاق. ظلّت تُكابد في مواجهتها على مدى عقود. بل ودفعت في ركابها الغالي والنفيس. لكنّها استحالت في نهاية المطاف أمراً واقعاً لا فكاك منه. فمنذ التحرير في عام 2000 انتهت وظيفة المقاومة المباشرة بانتهاء الاحتلال واندحاره. وكان لزاماً على “الحزب” يومذاك أن يذهب نحو تفكيك ذاته أو الاندماج ضمن الشرعيّة المؤسّساتيّة على أساس استراتيجية وطنيّة للدفاع، لكنّه لم يفعل. بل اخترع لنفسه مسوّغات تُتيح له الاستمرار في دوره وفي وظيفته، من تثبيت توازن الرعب والردع بوجه إسرائيل، إلى حماية الغاز والنفط، وبينهما حماية المراقد، ومواجهة الإرهاب، وتصدير الشيعة للقتال في أربع جهات الأرض.
بات “الحزب” خنجراً في خاصرة لبنان وفي خاصرة العرب. تحوّل من فصيل مسلّح يُمارس فعل المقاومة في بقعة جغرافيّة محتلّة ومحدودة، إلى ميليشيا إقليميّة تخترع الأدوار والسرديّات، وتحاول إقناع نفسها وإقناع اللبنانيّين بأنّ القتال في أقاصي صنعاء التي تبعد آلاف الكيلومترات عن بيروت، إنّما هو دفاع مشروع عن لبنان وشعبه. كذلك هي الحال في دمشق وفي بغداد وغيرهما من عواصم وحواضر العرب.
إيران دولة معتدية. اعتدت على لبنان وعلى استقراره وعلى دوره وعلى نسيجه السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والدينيّ، وقد بنت لهذا الاعتداء سرديّة مركّبة ومعقّدة
مفاضلة بين احتلالين
تفاخرت إيران بالسيطرة على أربع عواصم، على درّة تاجهم تتربّع بيروت. ما يعني أنّ المقاومة التي وُجدت أساساً لدحر الاحتلال الإسرائيليّ، استحالت احتلالاً مقابلاً. المفاضلة هنا ليست بين استقلال ناجز تُقابله عربدة إسرائيليّة، بل بين احتلالين، ونحن نقف جميعاً بين شرّ هذا وشرّ ذاك. ندفع ثمن الزواج حين يتّفقون أو يتقاطعون، ثمّ ندفع مصاريف الطلاق حين يختلفون أو يتذابحون.
لا ناقة لنا في هذه المعركة ولا جمل. إسرائيل اعتدت واحتلّت وقتلت ودمّرت. وإيران فعلت الشيء ذاته. وكما ارتأينا أن يذهب دبلوماسيّ وسياسيّ مخضرم من عيار سيمون كرم نحو التفاوض المباشر أو غير المباشر مع إسرائيل لانتزاع حقوقنا الوطنيّة كدولة طبيعية، كان يجب أن نفعل الشيء ذاته مع إيران، وأن نقول لها ما يجب أن يُقال، كدولة لبنانيّة، لا كمكوّنات سياسيّة أو طائفيّة أو حزبيّة. وهذا ربّما ما فات وزير خارجيّتنا، الذي سمح لعبّاس عراقجي أن يربح عليه بتسجيل النقاط، على الرغم من أنّه في موقع قوّة لا في موطن ضعف.
إقرأ أيضاً: الشّيعة أهل عقل وأهل بصيرة
تعرّض المشروع الإيرانيّ برمّته لضربة قاصمة. أُصيب ذراعه العسكريّ في لبنان في مقتله وفي ملعبه. سقطت سرديّة النار في مواجهة النار واستحالت أثراً بعد عين. لذلك كان على لبنانيّ شجاع يحمل ختم الدولة واسمها وشرعيّتها أن يحطّ رحاله في قلب طهران، ليردّ على كلام المرشد الأعلى قبل عقد كامل، بالقول: لبنان ليس إزميرالدا. لا تحميه الخناجر ولا السيوف ولا الصواريخ ولا المسيّرات. لقد اعتديتم علينا وعلى الشيعة بقدر ما اعتدت إسرائيل، بل أكثر. وبات لزاماً عليكم أن تعترفوا وأن تعتذروا وأن تسحبوا خنجركم المغروز في خاصرتنا.
لمتابعة الكاتب على X:
