لم يكن فيلم”بشّار ولونا” محاولة سينمائيّة للتجميل أو الدعاية، بل كان صفعة فجّة على وجه الحقيقة، صفعة تُعيد فتح الجرح الذي لم يلتئم منذ أوّل نعش عاد من سوريا إلى حيّ جنوبيّ أو إلى قرية بقاعيّة أو إلى بيت عزيز في الضاحية.
لم يُظهر الفيلم غطرسة السلطة فحسب، بل كشف شيئاً أكثر إيلاماً: احتقار صاحب هذه السلطة لمن ماتوا دفاعاً عنه من دون أن يرفّ له جفن أو يهتزّ له ضمير. هناك، وسط الدم والسخرية والتنمّر، بدا أنّ فكرة الموت نفسها كانت مادّة للضحك، وأنّ أولئك الذين قُتلوا في سبيله لم يكونوا سوى وقود احتياطيّ لحرب لا تخصّهم، ولا تخصّ مستقبل أولادهم.
في كلّ بيت شيعيّ كريم في بيروت والضاحية والجنوب والبقاع، لا بدّ أن تكون الأسئلة اليوم أكثر جرأة، لأنّ الصمت بعد هذا القدر من الإهانة لم يعد بطولة ولا وفاء.
مَن الحكيم الذي سيقف أمام الأجيال ويقول لهم لماذا ذهب إخوتهم إلى الموت في سوريا؟ بأيّ منطق يمكن تفسير الذي حصل؟ بأيّ لسان يمكن تبرير جثامين عادت محمولة على أكتاف الآباء بينما كان السفّاح الذي دافعوا عنه يبتسم من برجه الدمويّ البارد؟ كيف يمكن لرجل واحد أن يسحق أحلام آلاف الأكفّ التي شايعته وآمنت بخلاصه، ثمّ يُعيد لهم في المقابل خيبةً مُرّة، وبلداً محطّماً، وذاكرة مثقلة بالقبور؟

هل هناك بعد هذا الفيديو مكان لأسطورة القائد الضرورة؟ أين هي البلاغة القديمة التي سوّقت له محوراً للمقاومة وحامياً للعروبة؟ أين ما بقي من خطاب البطولة بعدما تبيّن أنّ القسوة ليست خياراً استراتيجيّاً، بل طبيعة سلوكيّة فطريّة، وأنّ الذبح ليس وسيلة بل هواية؟
الموت خدمة لنظام
كشف الفيديو بوضوح أنّ كلّ هذا الموت لم يكن تحريراً أو انتصاراً، بل خدمة لنظام يرى في مواطنيه حطباً لمواقده، وساحات معاركه مشاريع توريث مَرَضيّ لا علاقة لها بالكرامة ولا بالتاريخ.
ربّما لا يكون فيلم بشّار ولونا فرصة للغضب، بل للمراجعة، ولا لفتح الماضي كي نلعنه، بل كي نغلقه بحكمة
إذا كان السؤال مستفزّاً، فليبقَ كذلك: ماذا سيقال لهؤلاء الآباء والأمّهات إذا استيقظنا يوماً على خبر سقوط الأسد من علوّ روسيّ، أو خبر العثور عليه منتحراً، أو مقتولاً بجلطة خرساء؟ ماذا لو انهارت القلعة فجأة، كما انهارت قلاع كثيرة قبله؟ ماذا لو اتّضح أنّ كلّ تلك السنوات لم تكن إلّا مسرحيّة ثقيلة، وأنّ النهاية ستأتي برواية سوفيتيّة رديئة، بلا بطولة، وبلا معنى، حتّى بلا دموع؟
الموت عبثيّ حين لا تحيطه فكرة، وحين لا تحرسه قضيّة، وحين لا يكون له في آخر الطريق سوى الفراغ.
الموت الذي كان يجب أن يُناقَش منذ أربعة عشر عاماً، تمّ دفنه في الشعارات، واليوم يعود ليطالب بحقّه من العقل. هناك بيوت كانت تستحقّ أن تبقى بعيدة عن هذا الموت، بيوت كان الأجدى أن تنشغل بتربية أطفالها وتعليمهم، لا بتعداد الشهداء وإدارة الخسارة اليوميّة. أربعة عشر عاماً لم تُنتج سوى خراب نفسيّ وسياسيّ ومجتمع معلّق بين حربين، وحزب يعيش على توحّش الخارج لينجو في الداخل.
التّاريخ لا يُكتب بالدّم المجّانيّ
إنّها ببساطة أيّام الأسئلة الثقيلة للعقل الشيعيّ، لا انتقام فيها ولا كراهية، بل رغبة في إنقاذ ما بقي من العائلة اللبنانيّة، ومن الأبناء الذين لا يريدون أن يصبحوا عدداً على شاشة. العقل وحده هو الذي يستحقّ أن يحكم، والذاكرة وحدها هي التي يحقّ لها أن تحاسب. وبكلّ تأكيد ليس المطلوب التخلّي عن الكرامة أو الانسحاب من التاريخ، بل المطلوب أن يفهم الناس أنّ التاريخ لا يُكتب بالدم المجّانيّ ولا يتحقّق بالولاء لقاتل لا يرى فيهم سوى وقود.
بشّار ولونا” محاولة سينمائيّة للتجميل أو الدعاية، بل كان صفعة فجّة على وجه الحقيقة
ربّما لا يكون فيلم بشّار ولونا فرصة للغضب، بل للمراجعة، ولا لفتح الماضي كي نلعنه، بل كي نغلقه بحكمة. في النهاية، لا أحد يستحقّ أن يموت من أجل سفّاح، ولا أحد يجب أن يُدفَن من أجل ديكتاتور. ما يستحقّ الحياة هو لبنان، وأبناؤه، وعقولهم، ومستقبلهم، وحقّهم في أن يعيشوا بلا خوف وبلا توابيت تُحمل قبل الأوان.
ربّما تبدأ الأسئلة اليوم، وربّما تتواصل غداً. ما يزال الوقت متاحاً للكرامة قبل أن ينتهي العرض، وقبل أن تُطفأ الأضواء على مسرح الغطرسة الأخير.
