من “الشرع الأيديولوجيّ – الجهاديّ” إلى “الشرع السياسيّ – المناور”، وصولاً إلى “الشرع الإقليميّ – البراغماتيّ”، يبرز الرئيس أحمد الشرع فرصةً سوريّة وإقليميّة لإنهاء حقبة الأسدين الأب والابن. لكنّ معركة البناء السياسيّ والدستوريّ والاجتماعيّ ما تزال في بدايتها. ينتظر الجميع توسيع المشاركة السياسيّة الحقيقيّة، إطلاق الإصلاحات الدستوريّة وإعادة بناء المؤسّسات المنهارة من جديد.
ما تزال سوريا، بعد عام من حكم أحمد الشرع، في منطقة رماديّة بين الهدنة والتهدئة داخليّاً، وبين الخارج المتدخّل والمتحكّم. ربّما لم يجترح الشرع المعجزات خلال عام، ولم يحسم مسار ملفّات سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة وحياتيّة تنتظر الحلول، لكنّه نجح في معركته الأولى، وهي تبديل “الثوب الأيديولوجيّ” الذي ارتداه لسنوات طويلة وكان عليه التخلّص منه والتحرّر من أعبائه وارتداداته خلال فترة زمنيّة قصيرة، على طريق محاولة كسب ثقة الداخل والخارج. وتمكّن أيضاً من تجيير الدعم الذي حصل عليه إلى حضور سوريّ استراتيجيّ على أكثر من طاولة تفاوض محليّة وإقليميّة عُقدت في أكثر من مكان.
البناء المستدام
لن تُبنى سوريا الجديدة بين ليلة وضحاها، لكنّها تحتاج إلى خطوات تدريجيّة مدروسة تجمع بين السياسة والاقتصاد والأمن، مع الانتباه للتوازنات الإقليميّة والدوليّة التي ستظلّ تؤثّر في كلّ تحرّك. لم تدخل سوريا بعد مرحلة إعادة البناء، لأنّها لم تخرج حتّى الآن من مرحلة إعادة التموضع، والشرع بحاجة إلى فرق من الإصلاحيّين والخبراء السياسيّين والاقتصاديّين لضمان الانتقال بسوريا من مرحلة الثورة إلى مرحلة البناء المستدام، وأيّ مشروع لبناء الدولة دون استعادة السيادة سيبقى إدارة جغرافيا لا تأسيس دولة.
من دون إعداد جيش من المحدثين والإصلاحيّين السياسيّين والدستوريّين والاقتصاديّين، لن يكفي السوريّين بناء الجيش الوطنيّ وتزويده أحدث الأسلحة والتجهيزات. فالمعارك لها أولويّاتها وتراتبيّاتها، ولا تقلّ أهميّة عن الحروب الواجب خوضها للدفاع عن أرض الوطن والسيادة والحفاظ على وحدة سوريا.
من دون تسجيل اختراقات سياسيّة ودستوريّة واقتصاديّة واجتماعيّة أساسيّة شهدت سوريا خلال عام تحوّلات داخليّة متعدّدة
ستكون معركة سوريا المستقبل بين فتح الطريق أمام الكفاءات، والاستعداد للتنحّي عند الحاجة لمصلحة الخبرات والكوادر المؤهّلة، بعيداً من منطق “من يملك السلاح يملك القرار”. وستقوم على توافق جناحَي “نحن قدنا الثورة والتحرير” و”انتهى دوركم مشكورين”، على طريق إعادة بناء الدولة من جديد.
أزاحت ثورة السوريّين نظام الأسد بعد 14 عاماً من التضحيات، وبدأت سوريا مسيرتها الجديدة، لكنّ أسئلة كبرى ما تزال قائمة: ما الذي أُنجز حتّى الآن باتّجاه بناء الدولة الجديدة؟ ومن يملك القرار في الداخل؟ ومن يرسم حدود اللعبة من الخارج؟
ما يزال الكثير من الغموض والتضارب يحيط بتفاصيل التحرّك العسكريّ والخطّة التي أطاحت بنظام الأسد في مطلع كانون الأوّل المنصرم، وما واكب ذلك من خبايا وخفايا سهّلت إنشاء مركز عمليّات عسكريّ مشترك جمع بين جناحَين دائمَي التناحر في بقعة جغرافيّة ضيّقة شمال غرب سوريا: “قوّات الجولاني” و”الجيش الوطنيّ السوريّ”، تحت سقف غرفة عمليّات واحدة أشرفت على معركة الوصول إلى العاصمة خلال أيّام قليلة.

قبل عام فقط، كانت سوريا تُدار تحت عنوان “ردع العدوان”. تغيّر المشهد اليوم إلى حدّ ما: تراجعت أصوات المدافع وانخفضت حرارة الجبهات، لكنّ الأسئلة الكبرى ما تزال معلّقة بين الداخل والخارج، بين قوّة الشرع وبناء الشرعيّة.
لم يبدأ الشرع بعد مشروع إعادة البناء الشامل، لكنّه نجح في تثبيت حدّ أدنى من الأمن وفتح قنوات تواصل مع الخارج، مؤسِّساً قاعدة أولى لمستقبل سياسيّ جديد. سوريا اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، مرآة للتوازنات الإقليميّة والدوليّة، إذ يشكّل كلّ تحرّك داخليّ انعكاساً لتفاهمات ومصالح خارجيّة.
لم يبدأ الشرع بعد مشروع إعادة البناء الشامل، لكنّه نجح في تثبيت حدّ أدنى من الأمن وفتح قنوات تواصل مع الخارج
رؤية متكاملة
بعد عام على سقوط نظام الأسد، يقصد الرئيس السوريّ الجديد أحمد الشرع واشنطن التي تقود رفع العقوبات عن سوريا وشطب أسماء الشرع وكبار رفاقه من لوائح الإرهاب والمطلوبين، وتسهّل انضمام دمشق إلى التحالف الدوليّ لمحاربة تنظيم داعش، الأمر الذي سيسهّل الانتقال بالعلاقات الغربيّة–السوريّة إلى مسار جديد يمرّ عبر إنجاز خطّة التطبيع السوريّ–الإسرائيليّ، التي ستكون، بحسب الإدارة الأميركيّة، مدخلاً لإنهاء التوتّر التركيّ–الإسرائيليّ وللتطبيع بين تل أبيب والعديد من العواصم في المنطقة.
من دون تسجيل اختراقات سياسيّة ودستوريّة واقتصاديّة واجتماعيّة أساسيّة شهدت سوريا خلال عام تحوّلات داخليّة متعدّدة على مستويات مختلفة، أبرزها:
– استقرار أمنيّ نسبيّ في المدن الكبرى.
– تثبيت سلطة أحمد الشرع على الأرض، مع بروز “الشرع السياسيّ” مركزَ ثقلٍ تفاوضيّاً مناوِراً.
– بدء إصلاح بعض مؤسّسات الدولة وفتح قنوات عمل مع الكوادر المحليّة والخبرات السوريّة في الداخل والخارج.
– مواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة العاجلة وسط انهيار البنية التحتيّة وأزمات مزمنة تنتظر الحلول.
قدّم الشرع رؤية متكاملة لإعادة بناء الدولة ترتكز على ثلاثة مبادئ:
1- تعديل قانون الاستثمار لخلق بيئة آمنة للمستثمرين العرب والدوليّين.
2- الانتقال من ثقافة المعونات إلى ثقافة الاستثمار المنتج.
3- الاستثمار في الموقع الاستراتيجيّ لسوريا الذي يُعدّ ممرّاً للتجارة والطاقة بين الشرق والغرب.
ما تزال سوريا، بعد عام من حكم أحمد الشرع، في منطقة رماديّة بين الهدنة والتهدئة داخليّاً، وبين الخارج المتدخّل والمتحكّم
بات واضحاً، بعد عام من حكم أحمد الشرع، أنّ أيّ مشروع لإعادة بناء سوريا لن ينجح دون رؤية متكاملة تجمع بين الداخل والخارج، وتوازن بين الطموحات الوطنيّة والتطلّعات الإقليميّة والدوليّة. ويبدو أنّ هذا ما يفعله الشرع وفريق عمله من خلال:
– فتح مسارات تفاوضيّة مع الدول والدوائر المحيطة بسوريا بهدف توفير الدعم السياسيّ والاقتصاديّ.
– تعزيز التواصل مع القوى الإقليميّة والدوليّة في إطار صناعة توازنات تقرّب الأهداف وتوفّر حماية للمصالح الوطنيّة.
إقرأ أيضاً: نجم العالم بلا منازع
– تهيئة بيئة داخليّة وخارجيّة تدعم خطط إعادة بناء سوريا في موقعها العربيّ والإقليميّ الجديد.
لا يزال طويلاً الطريق نحو دولة مستقرّة وطموحة، لكنّه أصبح واضحاً أمام من يملك الرؤية والإرادة.
لمتابعة الكاتب على X:
