ماذا تفعل السعوديّة إذا انخفضت إيرادات النفط بشكل كبير؟ حدث هذا بالفعل هذا العام، وكان ردّ الفعل مختلفاً عمّا كان يجري في العقود الماضية. فبدلاً من تخفيض الإنفاق الحكوميّ، كان التوجّه الحفاظ عليه عند أعلى مستوياته التاريخيّة، بما يقارب 366 مليار دولار في 2025، عدا الإنفاق الاستثماريّ الذي تضخّه الصناديق والشركات الحكوميّة على المشاريع العملاقة والاستثماريّة.
تحمل الموازنة التي أعلنتها المملكة لعام 2026 التوجّه الاستراتيجيّ نفسه، فالإنفاق فيها سيتجاوز 1.3 تريليون ريال سعوديّ (الدولار يساوي 3.75 ريالات)، متخطّياً ما كان مخطّطاً له في ميزانيّة العام الحالي، على الرغم من أنّ هذا الإنفاق الكبير سيترافق مع تسجيل عجز مقدّر بنحو 165 مليار ريال، في ظلّ انخفاض أسعار النفط حاليّاً.
الفكرة هي فصل ديناميّة النموّ الاقتصاديّ عن تقلّبات أسعار النفط وإيراداته. فقد كانت تلك التقلّبات تؤثّر بشكل مباشر على دورات الإنفاق الحكوميّ، بحيث يتوسّع كلّما ارتفعت الأسعار وينكمش مع انخفاضها، وكان ذلك يؤدّي إلى تقلّبات في دورات النموّ والانكماش. ففي التجارب التاريخيّة، أدّى تراجع أسعار النفط في أواخر التسعينيّات وخلال الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 وبعد ظهور النفط الصخريّ عام 2014 إلى دورات عجز في الماليّة العامّة، تعرّضت بنتيجتها المشاريع للتوقّف أو التأجيل. أمّا الآن فالصورة مختلفة.
حوّلت السياسات الماليّة والاقتصاديّة الجديدة المملكة السعوديّة من دولة نفطيّة خالصة إلى أحد أسرع الاقتصادات الناشئة نموّاً
أسرع الاقتصادات نموّاً؟
أطلق وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان “رؤية 2030” عام 2016، على أساس سياسة ماليّة توسّعيّة لا تخضع لتقلّبات الطاقة العالميّة، بل تدعم برنامجاً استثماريّاً ضخماً لعمليّة التحوّل الكبرى للاقتصاد من النفط إلى القطاعات الجديدة. تشارف هذه الرؤية على دخول مرحلتها الثالثة، المسمّاة “مرحلة تعظيم الأثر”، والتي تغطّي السنوات الخمس الأخيرة من الرؤية. وكان مدهشاً للمؤسّسات الدوليّة ومراكز الأبحاث أنّ “مرحلة التنفيذ” على مدار السنوات الخمس الماضية شهدت تحقيق 93% من مؤشّرات الأداء المستهدَفة في الرؤية، أو هي على المسار الصحيح للاكتمال قبل الموعد المستهدَف. بل إنّ 300 من مؤشّرات الأداء اكتملت أو تجاوزت المستهدَف قبل الموعد بخمس سنوات.
حوّلت السياسات الماليّة والاقتصاديّة الجديدة المملكة السعوديّة من دولة نفطيّة خالصة إلى أحد أسرع الاقتصادات الناشئة نموّاً. ففي السنوات الثماني الماضية، لم تكن أسعار النفط في أحسن أحوالها، بل إنّ الناتج النفطيّ انكمش في المتوسّط بمعدّل نصف نقطة مئويّة سنويّاً، ومع ذلك كان الاقتصاد غير النفطيّ ينمو بمعدّل 5% سنويّاً، وبمعدّل تراكميّ يصل إلى 30% منذ عام 2016، مدعوماً بقطاعات جديدة مثل السياحة والسفر والترفيه والضيافة والصناعة والخدمات اللوجستيّة والتعدين والتكنولوجيا والخدمات الماليّة والتجارة الإلكترونيّة، والبناء والتشييد والاقتصاد الرقميّ.
أثمرت إصلاحات الرؤية ارتفاعاً هائلاً في الإيرادات غير النفطيّة لتتجاوز نصف تريليون ريال هذا العام، بزيادة 170% عمّا كانت عليه عام 2016، وأدّت إلى ارتفاع مساهمة القطاع الخاصّ غير النفطيّ في الاقتصاد إلى نحو 56%، للمرّة الأولى على الإطلاق.
تستفيد السعوديّة في كلّ ذلك من ميزة لا تتوافر لغيرها من الاقتصادات الكبرى، وهي وجود “فسحة ماليّة” كبيرة يتيحها انخفاض نسبة الدين العامّ إلى حجم الاقتصاد. إذ إنّ هذه النسبة ما زالت دون الثلاثين في المئة من حجم الاقتصاد السعوديّ، في حين أنّها تقارب مئة في المئة أو تفوقها بكثير في معظم الاقتصادات الكبرى في مجموعة السبع. وقد استغلّت السعوديّة هذه الفسحة للتوسّع في الاقتراض بالمقارنة مع المستويات التاريخيّة، لكن مع الحرص على توجيه الإنفاق لإنجاز التحوّل الاقتصاديّ العميق وتحقيق العائد الاقتصاديّ على المدى البعيد.
أثمرت إصلاحات الرؤية ارتفاعاً هائلاً في الإيرادات غير النفطيّة لتتجاوز نصف تريليون ريال هذا العام، بزيادة 170% عمّا كانت عليه عام
60 مليون سائح في 6 أشهر
ما هو أهمّ من الأرقام صورة المملكة السعوديّة الجديدة، وصورتها في المستقبل القريب. أنها تحوّلت خلال سنوات قليلة إلى وجهة استثماريّة وسياحيّة عالميّة تتصدّر المؤشّرات العالميّة في الكفاءة الحكوميّة ورقمنة الخدمات، وينشط فيها قطاع تقنيّ ماليّ (Fintech) يقوده الشباب من الداخل. وبعدما كانت دولة مصدِّرة للسياحة، تخسر من ميزان مدفوعاتها ما يقارب 20 مليار ريال سنويّاً نتيجة إنفاق مواطنيها في الخارج، بات ميزان السياحة يحقّق لها فائضاً يزيد على 70 مليار ريال سنويّاً، مع استقبالها لأكثر من 60 مليون سائح في النصف الأوّل من العام الحالي، لتصبح أسرع الوجهات السياحيّة الدوليّة نموّاً في العالم.
إقرأ أيضاً: السعودية ترعى مسار التفاوض النووي في باريس
ما ينتظرها في السنوات المقبلة أكبر. فمشاريع الرؤية ستكتمل قبل استضافة “إكسبو الرياض” عام 2030، ثمّ كأس العالم لكرة القدم عام 2034. وعندها ستكون فرصة المملكة لتقديم نفسها إلى العالم بوجهها الجديد. وأهمّ من ذلك كلّه رهان الرياض على التحوّل إلى قوّة عالميّة في اقتصاد الذكاء الاصطناعيّ، من خلال الشراكات مع كبرى الشركات الأميركيّة في بناء مراكز البيانات وإنشاء قدرات الحوسبة داخل المملكة.
هكذا تخرج المملكة السعوديّة من موقع ردّ الفعل على أسعار النفط إلى موقع المبادِر الذي يحدّد سياسته ويجعل من الثروة النفطيّة مموّلاً للتحوّل الاقتصاديّ والطموحات الكبيرة.
لمتابعة الكاتب على X:
