يزور البابا ليو الرابع عشر لبنان لثلاثة أيّام. وعلاقات الفاتيكان بمسيحيّي لبنان قديمة وعريقة. المقالة تتأمّل حالة المسيحيّين ولبنان عشيّة زيارة البابا، وتقرأ مشاعر المسيحيّين وإمكانات الزيارة ورسائلها. يأتي البابا بعد تركيا إلى لبنان حاملاً رسالة سلامٍ ومودّةٍ وأملٍ بالأمن والطمأنينة. ونحن نفرح لفرح المسيحيّين ومشاعرهم بالكرامة والأمل.
هو البابا الرابع الذي يزور لبنان، وقد عبّر ثلاثة آخرون عن رغبتهم في الزيارة لكنّهم لم يتمكّنوا من ذلك. ولا شكّ أنّ زيارة البابوات للبنان واستقبالهم للّبنانيّين الكثيرين في الفاتيكان سببُه الوجود المسيحيّ الكبير والمؤثّر في هذا البلد. ثمّ لأنّ لبنان (ومن ضمنه المسيحيّون) يعاني منذ ستّة عقود من حروبٍ متوالية من جانب إسرائيل، ومن مشكلات داخليّة تتحوّل إلى نزاعات مسلّحة. وفي العقود الثلاثة الأخيرة هناك المعاناة من الاستيلاء السوريّ واستيلاء “الحزب” الشيعيّ المسلّح ذي الانتماء الإيرانيّ.
المسيحيّ اللبنانيّ، والمارونيّ على وجه الخصوص، يشعر بمرارةٍ خاصّةٍ لأنّه مسؤولٌ في نظر نفسه وكثيرين من اللبنانيّين عن وجود لبنان بعد نضالاتٍ لمئتي عام من أجل الحصول على كيانٍ خاصّ، إلى أن وفّره لهم المستعمِر الفرنسيّ بعد هزيمة العثمانيّين وخروجهم. ومن الطرائف والمضحكات المبكيات أنّ البابا ليو الرابع عشر الذي وصل الأحد (30/11/2025) إلى لبنان، زار تركيا وتلبّث عشرين دقيقة في الجامع الأزرق في إسطنبول (أروع معابد العالم) قبل أن يأتي إلى الوطن الصغير الذي كان يُراد له أن يكون كياناً مسيحيّاً لكنّه لم يكن، وبالطبع لن يكون، وسط هذا البحر العربيّ والإسلاميّ الشاسع.
شخصيّة البابا ليو الرابع عشر تبعث على الأمن والأمل والطمأنينة. وإذا بعثت زيارته على شيءٍ من هذه المعاني والمشاعر في نفوس المسيحيّين اللبنانيّين القلقين، ففي ذلك خير كبير للبنان
وسط تزاحم الملفّات
في القرن الثامن عشر كان المسيحيّون بجبل لبنان وحوافيه، وقد توثّقت علاقتهم بالفاتيكان، يحسبون أنّ التحدّي الأقرب والأكبر هو الصراع مع طائفة الموحّدين الدروز على الجبل. لكن بعدما تجاوز الطرفان الأمر بسبب العلاقات الدوليّة مع كاثوليك العالم، وجد المسيحيّون أنفسهم في جوار هذا الإسلام الهائل الذي كأنّما لا تكفي ضخامته للشعور بهول حضوره، فإذا بإحيائيّاتٌ تضيق بالجوار المختلِف القريب والبعيد تظهر فيه أيضاً بين الفينة والأخرى!
لمّا استجدّ الحضور القوميّ وجد الرؤساء الموارنة أنفسهم تحت وطأة مصر جمال عبدالناصر، إلى أن سيطر البعثيّون بسورية واستلحقوا لبنان محتضنين للشيعة، مظاليم النظام اللبنانيّ المزعومين، بعدما كان فلسطينيّو ياسر عرفات قد استلحقوا السنّة شركاء الموارنة في إقامة الكيان، الذين تخلّوا عن تحالف “الصيغة الفريدة” بحجّة اقتناع شبابهم بتحرير فلسطين انطلاقاً من جونيه!
وسط هذه الزعازع المستمرّة لعقود، التي قادت إلى هجرةٍ واسعةٍ في صفوف المسيحيّين من لبنان، ما توقّفوا عن الحراك في كلّ الاتّجاهات من فرنسا إلى إسرائيل إلى سورية فإلى أميركا. وعدد من المسؤولين عن الملفّ اللبنانيّ في إدارة ترامب هم من أصول لبنانيّة، لكنّ معظم المسؤولين في الإدارة المذكورة عن ملفّات المنطقة يهود يحملون جنسيّات مزدوجة أميركيّة وإسرائيليّة.
على كلّ حال، ما وجدوا بعد الأمّ الحنون (فرنسا) صدراً حانياً يتّكئون عليه. ولا يعود ذلك إلى عيوب خاصّة في الإبستمولوجية والسايكولوجية والجيوسياسة فقط، بل لأنّ الدول الكبرى والوسطى تجد نفسها أينما التفتت أمام المشهد العربيّ والإسلاميّ الشاسع، فلا تستطيع الانصراف إلى لبنان أو إعطاءه أولويّة وسط تزاحم الملفّات. فحتّى عندما تحدّى الفلسطينيّون إسرائيل من لبنان، عهد الأميركيّون إلى سورية الأسد فرض الانضباط على الشأن الفلسطينيّ، وخوّلوا السوريّين سلطات على لبنان ما كانوا يحلمون بها، لأنّ الدوليّين ما استطاعوا الاعتماد على الجيش اللبنانيّ المارونيّ القيادة لا في مواجهة الفلسطينيّين ولا في مواجهة الحزب المسلّح من بعد.
فلنتصوّر أنّه بعد عدّة عقودٍ من إدراك الخطر الإسرائيليّ وخطر التنظيمات المسلّحة على الكيان، يشكو الجميع من ضعف الجيش وعدم قدرته على المواجهة، سواء للخوف من الفتنة أو للخوف من الاندحار! ولن يحدث هذا ولا ذاك، لكنّه خوفٌ لا يُدرَك كُنهُه.
منذ القرن السادس عشر يهتمّ الفاتيكان بمسيحيّي الجبل اللبنانيّ. والطائفة المارونيّة من طوائف المونوفيزيّين السريان في بلاد الشام القديمة. ولكنّهم منذ ذلك التاريخ، إن لم يكن أقدم، انضمّوا إلى الفاتيكان، واعترف لهم الكرسي الرسوليّ بوضعٍ خاصّ. وقد صنع لهم مدرسة بروما، وافتتحت إرساليّاته ومؤسّساته عشرات المدارس لهم وللمسيحيين الآخرين بالمشرق، وأشهرها كما هو معروف جامعة القدّيس يوسف (التي أسّستها الرهبانيّة اليسوعيّة)، لكنّ مدارس البعثات والمعاهد والرهبانيّات الدينيّة لا تقلّ أهمّية.
وسط هذه الزعازع المستمرّة لعقود، التي قادت إلى هجرةٍ واسعةٍ في صفوف المسيحيّين من لبنان، ما توقّفوا عن الحراك في كلّ الاتّجاهات من فرنسا إلى إسرائيل إلى سورية فإلى أميركا
يشعر المسيحيّون اللبنانيّون، وبخاصّة الموارنة، بالنشوة لزيارة البابا، واختصاصهم واختصاص مؤسّساتهم بمعظم وقت الزيارة التي تدوم ثلاثة أيّام. لقد أعدّوا إعداداتٍ هائلة ليس بسبب ولائهم للكنيسة أو شدّة إيمانهم، بل لأنّهم يشعرون بالوحدة والانعزال النسبيّ. ويشعرون بالحذر الشديد من تفاقم الخطر على الكيان بسبب التنظيم المسلّح المتغلّب على الدولة والمتغلغل في المؤسّسات، ثمّ بسبب متغيّرات سوريّة. هناك إحساس عميق وظاهر لديهم أنّ نظام الأسد الأب والابن، وهو نظام أقلّويّ، كان أفضل لهم لأنّهم يتشاركون معه في أحاسيس (وليس في مصالح!) الأقلّيّات المتوجّسة من الأكثريّة، فكيف وأحمد الشرع أصله من تنظيم أصوليّ متطرّف؟!
تتصاعد الشائعات بأنّ مئات من أعوان نظام الأسد السابق مختبئون لدى أطراف لبنانيّة من سائر الطوائف، كلّها مشاركة في السلطة! ثمّ هم يشعرون، ما داموا قد فقدوا السيطرة على البلاد، أنّ الإسرائيليّين ما عادوا يحسبون لهم حساباً، وخصوصاً أنّ هناك شعوراً عميقاً (أيضاً) لدى العامّة اللبنانيّة أنّ سائر شخصيّات السلطة في البلاد لديها تعالق مستدام مع قادة المسلّحين الشيعة حبّاً بالمناصب والفوائد المادّية على الرغم من إفلاس البلاد.
ماذا يستطيع البابا أن يفعل؟
الماريشال ستالين عندما طُلب إليه أن يزور الفاتيكان في الأربعينيّات كما فعل الدوليّون الآخرون، سخر من هذا المطلب وقال: كم يمتلك البابا من المدافع والدبّابات والطائرات؟! ستالين زال وزال نظامه، والبابا باقٍ. وعندما كنّا نزور محاضرات الكاردينال جوزف راتسينغر (1971 – 1973) بجامعة توبنغن، الذي صار بابا عام 2005، سأله أحد الطلّاب الكاثوليك المنزعجين: لماذا هذا الاهتمام بالمسكونيّة ووحدة الكنيسة مع البروتستانت غير المهتمّين حقّاً بالدين؟ تضاحك الكاردينال وقال: لقد قدّموا لنا أكبر خدمة عندما أخرجونا من أوهام السلطة والسلطان الدنيويّ، فصرنا أكبر قوّةٍ أخلاقيّةٍ في العالم، وهذه هي رسالة المسيح، بينما انغمسوا هم في هموم الدنيا، وواجبنا دعوتهم إلى العودة.
إقرأ أيضاً: البابا في لبنان: “العبرة” في البيان الختاميّ
يستطيع البابا بالفعل أن يؤدّي رسالة سلامٍ للبنان والمنطقة، تثير اهتمام أميركا وتعاطفها مع الوطن الصغير. وقد تحدّث البابا مرّتين عن مظلمة فلسطين وحيّا محاولة أميركا لصنع سلامٍ جديد. لذا يستطيع التأثير لهذه الناحية أيضاً. وما يزال البابا في بداية عهده، فلا نستطيع أن نقدّر هل تتوهّج في عهده أيضاً رسالة الأخوّة الإنسانيّة مع المسلمين التي وقّع وثيقتها البابا فرنسيس مع شيخ الأزهر في أبوظبي عام 2019؟ بيد أنّ زيارته لتركيا هي الأولى تبشيراً بذلك على كلّ حال.
شخصيّة البابا ليو الرابع عشر تبعث على الأمن والأمل والطمأنينة. وإذا بعثت زيارته على شيءٍ من هذه المعاني والمشاعر في نفوس المسيحيّين اللبنانيّين القلقين، ففي ذلك خير كبير للبنان.
