من المارينز إلى بارّاك: الوقائع الأميركيّة لفشل لبنان

مدة القراءة 7 د

قال توم بارّاك، السفير الأميركيّ في أنقرة، ومبعوث واشنطن إلى لبنان وسوريا، في تصريحٍ أثار جدلاً واسعاً، إنّ “لبنان دولة فاشلة… وعليه أن يتفاوض مع إسرائيل”، الكيان الخصم والدولة العدوّة. عبارةٌ كهذه ليست رأياً دبلوماسيّاً عابراً، بل تكثيفٌ لتاريخٍ كاملٍ من النظرة الأميركيّة إلى لبنان.

 

 

منذ خمسينيّات القرن الماضي، لم تتعامل واشنطن مع لبنان كدولةٍ ذات سيادةٍ وقرارٍ مستقلّ، بل كـ”مساحةٍ رمزيّةٍ” تختبر فيها سياساتها في المشرق، وكـ”مرآةٍ” تعكس توازن القوى الإقليميّة والدوليّة.

في كلّ مرّةٍ اضطرب فيها الإقليم، كان لبنان أوّل من يظهر فيه الاختلال، وآخر من تُرمَّم فيه الكفّة.

إنزال المارينز والخوف من العدوى النّاصريّة

في صيف عام 1958، حطّت أولى وحدات المارينز الأميركيّين على شواطئ بيروت ضمن عمليّة بلو بات (Blue Bat) الشهيرة. جاء التدخّل الأميركيّ تحت ذريعة حماية “النظام الدستوريّ” بناء على طلب الرئيس كميل شمعون آنذاك، لكنّ السبب الحقيقيّ كان أعمق: الخوف من انتشار المدّ الناصريّ واليساريّ المدعوم من الاتّحاد السوفيتيّ وتحوّله إلى خطرٍ مباشرٍ على الأنظمة الموالية للغرب في المنطقة.

كان لبنان بالنسبة إلى واشنطن الواجهة الليبراليّة في شرق يغلي بأيديولوجيّتَين: القوميّة واليساريّة. وعلى الدوام، رأت الإدارات الأميركيّة المُتعاقبة أنّ سقوط بيروت بـ “مرض الأيديولوجيّتَين” نكسة استراتيجيّة لمشروعها في الشرق الأوسط. فمنعت عبر تدخّلها العسكري انتقال “العدوى القوميّة” من القاهرة ودمشق إلى بيروت. هكذا رسخت للمرّة الأولى فكرة أنّ لبنان جزء من الأمن القوميّ الأميركيّ، لا دولة مستقلّة في محيطها وحسب.

في كلّ مرّةٍ اضطرب فيها الإقليم، كان لبنان أوّل من يظهر فيه الاختلال، وآخر من تُرمَّم فيه الكفّة

السّبعينيّات: بيروت اليساريّة واصطدام الأيديولوجيات

حين اشتعلت الحرب الأهليّة عام 1975، كانت بيروت العاصمة الفكريّة لليسار العربيّ ومركز التقاء الفصائل الفلسطينيّة والحركات اليساريّة اللبنانيّة. فيها التقت الشعارات الاشتراكيّة بشعارات المقاومة ضدّ إسرائيل، وهناك أيضاً رأت واشنطن أخطر تهديدٍ لنفوذها.

في المقابل، وجد الاتّحاد السوفيتيّ في هذا المشهد نافذةً رمزيّة لحضوره في المشرق، فدعم قوى اليسار وحركات المقاومة. ومع كلّ خطوة كانت موسكو تدعم فيها هذه القوى، كانت واشنطن تدعم القوى المُحافظة والأنظمة الصديقة لإسرائيل. هكذا تحوّل لبنان إلى صندوق توازنٍ أيديولوجيّ: من جهةٍ تُرفع راية العدالة الاجتماعيّة، ومن جهةٍ أخرى تُرفع راية الاستقرار الليبراليّ. لكنّ النتيجة لم تكن انتصار أيٍّ من الطرفين، بل انهيار الدولة اللبنانيّة نفسها تحت وطأة الصراع بالوكالة.

بداية الثمانينيّات: العودة الأميركيّة وسقوط الوهم

مع الاجتياح الإسرائيليّ عام 1982، قرّرت واشنطن التدخّل مجدّداً عبر القوّات المتعدّدة الجنسيّات لتأكيد نفوذها في لبنان وإعادة هندسة التوازن الداخليّ على مقاسها. إلّا أنّ تجربتها كانت كارثيّة عليها. فبعد عام واحد، في تشرين الأوّل من عام 1983 اهتزّت منطقة الشرق الأوسط على وقع تفجير مقرّ المارينز في بيروت، الذي أودى بحياة أكثر من 240 جنديّاً أميركيّاً.

لم يكن التفجير ردّاً على وجودٍ عسكريّ وحسب، بل صفعة استراتيجيّة لواشنطن التي ظنّت أنّها قادرة على إعادة تشكيل لبنان من فوق. فانسحبت خائبة بعدما اكتشفت أنّ القوّة لا تبني نفوذاً، وأنّ لبنان أكثر تعقيداً من أن يُدار بقرارٍ خارجيّ.

التّسعينيّات: تفويض الأسد والوصاية بالوكالة

في التسعينيّات، وفي أعقاب الحرب الأهليّة اللبنانيّة، أبرمت واشنطن معادلة مضمَرة: استقرار لبنان في مقابل تفويض سوريا بإدارته. كان الرئيس الراحل حافظ الأسد، ومن بعده نجله بشّار الأسد، الضامن الفعليّ لنظامٍ داخليٍّ لا يُقلق واشنطن ولا يهدّد حدود إسرائيل. فالرئيس الأب أثبت أنّه قادر على الإمساك بالدولة اللبنانيّة بقبضة جيشه العسكريّة والأمنيّة، بما يضمن حدوداً هادئةً مع إسرائيل ونظاماً داخليّاً منضبطاً لا يُقلق واشنطن.

تحت هذه الوصاية المزدوجة، السوريّة في الشكل والأميركيّة في الجوهر، عاش لبنان حالةً من الاستقرار الموجّه: لا حرب شاملة، ولا سيادة كاملة. وكانت الولايات المتّحدة الأميركيّة مرتاحة لهذه الصيغة ما دامت بلاد الأرز لا تشكّل مصدر صداع لإسرائيل ولا تهديداً لمصالحها الإقليميّة.

غير أنّ هذه الراحة انتهت باغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط من عام 2005، وخروج القوّات السوريّة، فانكشفت واشنطن أمام واقعٍ جديد: لا شريك يدير لبنان عنها، ولا قدرة لها على إدارته مباشرة.

حين يقول توم بارّاك إنّ لبنان “دولة فاشلة”، فهو في الواقع يصف نتيجة سياسةٍ أميركيّة امتدّت عقوداً

ما بعد عام 2005: لبنان مساحة فراغٍ إقليميّ

بعد الانسحاب السوريّ، عاد لبنان إلى موقعه التاريخيّ بأن أصبح مرآةٍ للتوازنات الإقليميّة. فكلّما احتدمت المواجهة بين إيران والسعوديّة، انعكست آثارها على بيروت وساحاتها. ومع الانهيار الماليّ منذ عام 2019، صار لبنان النموذج الأكثر وضوحاً لما يسمّيه بارّاك اليوم “الدولة الفاشلة”.

لكنّ هذا الفشل لم ينشأ صدفة ولم يأتِ من فراغ، بل من نظامٍ سياسيّ واقتصاديّ صُمّم برعايةٍ أميركيّة منذ التسعينيّات، يقوم على الريع الماليّ والارتهان للمؤسّسات الدولية، لا على الإنتاج أو السيادة الاقتصاديّة. وعلى الرغم من ذلك، تُحمِّل واشنطن، عبر تصريح مبعوثها، لبنان مسؤوليّة انهياره، متناسيةً أنّها كانت المهندس الأوّل لنموذج الدولة العاجزة.

الثّقافة اللّبنانيّة… عصيّة على الإلغاء

على الرغم من كلّ الوصايات، ظلّ لبنان أكثر من دولة وأقلّ من كيان سياسيّ. إنّه مساحة فكريّة وثقافيّة تتجاوز قدراته المادّيّة والسياسيّة. فمن مقاهي الحمرا إلى صحف بيروت ومنتدياتها، خرجت مدارس فكريّة يمينيّة ويساريّة شكّلت وصاغت وجدان العالم العربيّ الحديث.

في زمن الحرب الباردة، كانت بيروت منارةً للجدل بين الشرق والغرب، وفي زمن العولمة أصبحت مساحةً للنقاش في الحرّية والهويّة والاستقلال الثقافيّ. وربّما ما يثير قلق واشنطن ليس فشل لبنان الإداريّ، بل قدرته الثقافيّة على إنتاج وعي عصيّ على التدجين والرضوخ.

ينتج هذا البلد الصغير أفكاراً أكثر ممّا ينتج سياسات، ويقاوم بالمعنى حين يُحاصَر بالمادّة، سلاحاً كانت أم اقتصاداً.

ظلّت الولايات المتّحدة تقرأ لبنان “مشاعاً سياسيّاً”، ولم تنظر إليه “مرآةً” لمأزق الغرب نفسه في الشرق الأوسط: مأزق القوّة التي لا تعرف كيف تحترم الضعف من دون أن تستغلّه، ولا كيف تدعم الحرّية من دون أن تُخضعها لمصالحها.

لبنان، بكلّ فوضاه، يظلّ التجربة الوحيدة التي حاولت أن تجمع بين الشرق والغرب، بين الفرديّة والهويّة، بين الدين والمدنيّة. لذلك حين يصفه الدبلوماسي الأميركيّ توم بارّاك بأنّه “دولة فاشلة”، فإنّما يكشف عجز بلاده عن فهم هذا التعقيد، أو عن احتمال فكرة دولةٍ صغيرةٍ ترفض أن تكون “ملفّاً” عند الإدارة الأميركيّة. وفي نهاية المطاف، سيبقى لبنان، مهما طال زمن الوصايات والانهيارات، مساحة مقاومة رمزيّة لفكرة الإلغاء نفسها: إلغاء الدولة، وإلغاء الذات. ربّما هو فشلٌ في المعنى الإداريّ، لكنّه ليس فشلاً في المعنى الوجوديّ. وكم من دولةٍ نجحت في الإدارة وفشلت في المعنى.

إقرأ أيضاً: نتنياهو يتّكل على تشدّد “الحزب” لإفشال التّفاوض؟

حين يقول توم بارّاك إنّ لبنان “دولة فاشلة”، فهو في الواقع يصف نتيجة سياسةٍ أميركيّة امتدّت عقوداً. فمن إنزال المارينز عام 1958 إلى تفويض الأسد في التسعينيّات، ومن دعم النموذج الريعيّ إلى تجاهل الانهيار الماليّ، كانت واشنطن شريكاً دائماً في صياغة لبنان مجالاً لا دولة.

لكنّ الحقيقة الأعمق أنّ هذا الفشل ليس لبنانيّاً فحسب، بل فشل للمشروع الأميركيّ في فهم الشرق الأوسط. فلبنان، على الرغم من هشاشته، يعكس تناقضات عالمٍ يبحث عن معنى: ليبراليّة بلا روح، ويسار بلا أفق، وهويّة تتشبّث بالبقاء. لقد أرادته واشنطن واجهةً لنجاحها، فتحوّل مرآةً لعجزها.

من قلب هذا العجز، ما تزال بلاد الأرز، بضعفها وقوّتها، بفوضاها وفرادتها، تقول شيئاً بسيطاً لواشنطن: من المارينز إلى المبعوثين… الرواية الأميركيّة لفشل لبنان. وفشل لبنان ليس ذاتيّاً، بل انعكاس لفشل المشروع الأميركيّ في المشرق.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

نيويورك: من 11 أيلول إلى عمدةٍ مسلم مهاجر

في لحظةٍ تُعيد رسم ملامح الهويّة الأميركيّة، اختارت نيويورك المدينة، التي كانت يوماً رمزاً للجراح بعد 11 أيلول 2001 حين وقف عمدتها رودي جولياني رافضاً…

زهران ممداني الذي هزم ترامب

في زمنٍ تتقلّص فيه المدن الكبرى تحت ثقل اللامساواة والهويّة المنغلقة، يطلّ زهران ممداني الفائز بمنصب عمدة مدينة نيويورك وجهاً جديداً للعصر، يحمل في ملامحه…

“الحزب” يفقد ثلثه

حقيقة ينبغي أن يدركها “الحزب” وقيادته، في بيروت كما في طهران، أنّ “الحزب” خسر ثلاثة أثلاث كانت تشكّل ركائز نفوذه وهيمنته على الساحة السياسيّة في…

“الحزب” يرفض التّفاوض ردّاً على حشر إيران؟

تتراكم المفارقات على طريق رسم المعادلات الجيوسياسيّة في المنطقة. تستبق واشنطن استقبالها أحمد الشرع الإثنين بالتحضير لاستخدام طائراتها لقاعدة جوّيّة جنوب دمشق. قبل ثلاثة أيّام…