تعيش العلاقة بين أميركا وإسرائيل مرحلةً قد لا تكون مسبوقةً في ظلّ إدارة دونالد ترامب الثانية. بعدما كان “أفضل صديق لإسرائيل يدخل البيت الأبيض”، تحوّل الرجل في نظر اليمين الإسرائيليّ المتطرّف إلى فارضٍ للوصاية، يمنع استئناف الحرب في غزّة، ويمنع ضمّ الضفّة الغربيّة بالأمر المباشر، و”يُذلُّ” المسؤولين الإسرائيليّين بإلزامهم بالاعتذار إلى قطر والسعوديّة. ما عمق هذا التباين؟ هل هو ظرفيّ أم يعبّر عن تحوّل كبير؟ كيف يتأثّر لبنان بهذا التباعد؟
تأخذ التحوّلات في “العلاقة المقدّسة” أبعاداً مقلقة لإسرائيل، وهنا بعضٌ من وقائعها:
1- قرار واشنطن إنشاء مركز تنسيقيّ مدنيّ – عسكريّ في كريات غات بإشراف القيادة الأميركيّة المركزيّة (سينتكوم)، يضمّ نحو مئتي عنصر أميركيّ، ينشر المسيّرات ويراقب وقف إطلاق النار على الأرض وتدفّق شاحنات المساعدات. أثار هذا الوجود في إسرائيل نقاشاً داخليّاً في ما إذا كانت واشنطن تمارس “وصاية” على إسرائيل لمنعها من استئناف الحرب، بعدما أعلن ترامب انتهاءها بتصريح جازم غير قابل للالتفاف. وقد دفع ذلك نتنياهو إلى التصريح بأنّ “إسرائيل شريك لا تابع” للولايات المتّحدة. ولم يكن ليصرّح بذلك لولا أنّ الأمر بات محلّ نقاش.
2- توالي زيارات كبار المسؤولين الأميركيّين لإسرائيل في الأسبوعين الماضيَين، من نائب الرئيس جي دي فانس إلى وزير الخارجيّة ماركو روبيو والمبعوثين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، في ما يشبه التموضع الميدانيّ لإدارة ترامب للوصاية على تحرّكات الحكومة الإسرائيليّة. كان لافتاً أنّ جي دي فانس زار كنيسة القيامة الواقعة في القدس الشرقيّة، خلافاً لعادة المسؤولين الأميركيّين زيارة “الحائط الغربيّ” (حائط البراق)، ثمّ أنهى زيارته بتصريح ناريّ انتقد فيه تصويت الكنيست الأوّليّ على ضمّ الضفّة الغربيّة، واصفاً الخطوة بـ”الغبيّة” و”الإهانة” له شخصيّاً.
الأكيد أنّ التباين بين إسرائيل وإدارة ترامب ما يزال تحت سقف النقاش في ما هو في مصلحة إسرائيل على المدى الأبعد
3- إعلان ترامب بنفسه، وبلغة الأمر، أنّ “ضمّ الضفّة الغربيّة لن يحدث”. الأبرز أنّه عزا ذلك بشكل أساسيّ إلى أنّه أعطى “كلمةً” في هذا الشأن للعرب. مثل هذه اللغة ليست معهودة من أيّ رئيس أميركيّ من قبل. بل وصل به الأمر أن يهدّد بلغة مباشرة بوقف الدعم الأميركيّ لإسرائيل “إذا واصلت سياسة الضمّ وتحدّي العالم”.
إذلال نتنياهو
4- تبرّم اليمين الإسرائيليّ المتطرّف من أنّ ترامب “أذلّ” رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو حين اتّصل رئيس الوزراء القطري محمد بن عبدالرحمن وأعطى الهاتف لنتنياهو ليقدّم اعتذاره إلى قطر ويتعهّد بعدم تكرار الاعتداء على أراضيها. ازداد التبرّم بعد اضطرار وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش إلى الاعتذار من السعوديّة عن تصريح مسيء، وهو ما لا يمكن تخيّله من وزير على هذا القدر من التطرّف.
5- تصاعد النقاش بالإعلام الأميركيّ، على نحوٍ غير مسبوق، في نفوذ اللوبي الإسرائيليّ (AIPAC) في دوائر القرار، والتمويل الذي يقدّمه لأعضاء الكونغرس. يقود هذا النقاشَ بعضٌ من أبرز الوجوه الإعلاميّة مثل تاكر كارلسون وجو روغن، وهو ما يشير إلى أنّ الأمر بات مادّة خلافيّة، ليس فقط في المعسكر الديمقراطيّ، بل أيضاً في المعسكر الجمهوريّ الأكثر قرباً إلى إسرائيل.

6- تُظهر استطلاعات الرأي الأميركيّة تحوُّلات مقلقة لإسرائيل، خصوصاً لدى الأجيال الشابّة. على سبيل المثال، أظهر استطلاع Pew هذا الشهر أنّ 59% من الأميركيّين لديهم نظرة غير إيجابيّة تجاه الحكومة الإسرائيليّة، وأظهر استطلاع “ذا إيكونوميست – يوغوف” الأخير أنّ 46% من الشباب بين 18 و29 سنة يتعاطفون مع الفلسطينيّين، مقابل 17% فقط يتعاطفون مع إسرائيل. الجدير بالذكر أنّ التعاطف مع الفلسطينيّين ما يزال محدوداً للغاية في أوساط الجمهوريّين، إذ لا يزيد على 3%، مقابل 58% مع الإسرائيليّين، وفق الاستطلاع نفسه.
تعيش العلاقة بين أميركا وإسرائيل مرحلةً قد لا تكون مسبوقةً في ظلّ إدارة دونالد ترامب الثانية
اللّوبي الإسرائيليّ ما يزال ممسكاً
لا تعبّر هذه الوقائع عن نقطة تحوّل لا رجعة فيها في العلاقات الأميركية الإسرائيليّة. يعتقد كثيرون أنّ اللوبي الإسرائيليّ ما يزال ممسكاً بمفاصل أساسيّة في صناعة القرار في واشنطن. تكفي مراجعة قائمة كبار المتبرّعين من أصحاب المليارات للمرشّحين الرئاسيّين كافّة للتأكّد من أنّ الأمر لا يتوقّف على قناعات الرئيس وطاقمه المحيط به. غير أنّ الاختراق الذي حقّقه المرشّح لمنصب عمدة نيويورك زوهران مامداني في وجه الحملات المباشرة من كبار المليارديرات اليهود، من أمثال بيل أكمان، ينبئ بشيءٍ ما يتغيّر في الأرضيّة الشعبيّة.
الأكيد أنّ التباين بين إسرائيل وإدارة ترامب ما يزال تحت سقف النقاش في ما هو في مصلحة إسرائيل على المدى الأبعد، وربّما لا يختلف كثيراً عن بعض أوجه النقاش في الداخل الإسرائيليّ، أو في أوساط اليهود أنفسهم في الولايات المتّحدة. لكنّ الإشارات الأكثر إثارة للقلق الإسرائيليّ هو ذلك النقاش في أوساط تيّار “أميركا أوّلاً” (MAGA) الجمهوريّ في ضرورة التمييز بين المصلحة الأميركيّة والمصلحة الإسرائيليّة. هذا النوع من الرسائل يؤثّر في الجمهور الأبيض أكثر من غيره.
هل تمنع أميركا الحرب عن لبنان؟
ما يهمّ لبنان في هذه التحوّلات هو استشراف ما إذا كان التزام إدارة ترامب منع إسرائيل من العودة إلى الحرب في غزّة يمتدّ إلى لبنان أيضاً. ثمّة افتراضٌ يحلو لـ”الحزب” أن يشيعه، تضميناً أو تصريحاً، وهو أنّ رسائل الموفدين الأميركيّين لا تتجاوز التهويل لتأخذ به إسرائيل “ما عجزت عنه في الحرب”. أشار الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم إلى ذلك تكراراً بتساؤله: إذا كانت إسرائيل قادرة على الحرب فلماذا تكتفي بالضربات المحدودة؟
وقع “الحزب” في الافتراضات نفسها قبل اندلاع الحرب الواسعة العام الماضي، وكان إعلامه والمتحدّثون بلسان حاله يكرّرون صبح مساء أنّ إسرائيل لن تجرؤ على الحرب الكبرى، وأنّ ميزان الردع قويّ، وأنّ أميركا لا تريد هذه الحرب. انهارت كلّ تلك الافتراضات في اللحظة التي ظنّ فيها “الحزب” أنّ اتّفاق وقف إطلاق النار ناجز.
يضيف “الحزب” إلى افتراضاته السابقة مستجدَّين: أوّلهما أنّ ترامب لا يريد مزيداً من الحروب، والثاني أنّ ما يسري على غزّة يجب أن يسري على لبنان. لنضع الأوّل جانباً لأنّه لا يعوَّل عليه. أمّا الثاني فهو صحيح، لكنّه يُغفل أين أصبحت مشاريع الحلول العسكريّة والسياسيّة في غزّة، ويُغفل مدى انخراط حركة حماس في هذه المشاريع.
يكفي أن يتابع مسؤولو “الحزب” مقابلة ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر مع برنامج “60 دقيقة”، ثمّ مقابلة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خليل الحيّة، لمعرفة مدى جدّيّة التواصل بين الأميركيّين و”حماس”، ومدى تقدّم مشروع حصر السلاح ونقل السلطة في غزّة.
إقرأ أيضاً: التّوتّر بين ترامب ونتنياهو: العرب يستعيدون التّوازن
أخطر ما يجب أن يخشاه “الحزب” أن يكون ما يسري على غزّة يسري على لبنان. على قصر بعبدا أن يلتفت إلى ذلك أيضاً.
لمتابعة الكاتب على X:
