متى ينظّم الحزب “احتفالية” المصالحة مع الدّولة؟

مدة القراءة 4 د

على الرغم من مرور الزمن وتبدّل المشاهد في لبنان والمنطقة، يصرّ “الحزب” على الدوران في الحلقة ذاتها التي أدمنت إنتاج الموت والبطولات الوهميّة بدل أن تنتج حياةً وسيادةً ووطناً. مشهد الاحتفال بالأفواج الكشفيّة الذي نظّمه “الحزب” في مدينة كميل شمعون الرياضيّة في ظلال العلم الإيرانيّ، بدا كأنّه احتفالٌ بانتصاراتٍ لم تقع، وإحياءٌ لثقافةٍ يائسةٍ ترفض أن تنظر في المرآة لتسأل نفسها: إلى أين نمضي بأجيالٍ صغيرة تُقدَّم كلّ مرّة قرباناً لمعارك عبثيّة لم تغيّر شيئاً في موازين القوى، لكنّها غيّرت كلّ شيء في حياة اللبنانيّين؟

 

 

بلدنا مُتخم بالأزمات، و”الحزب” يطلّ بفعّاليّةٍ ضخمة تُعيد إنتاج مفردات الحرب والاصطفاف، بدل أن تفتح كوّةً صغيرة نحو الدولة. المشهد بحدّ ذاته رسالة: لا نيّة للانخراط في مؤسّسات الدولة ولا رغبة في التخلّي عن السلاح بعدما أصبح هذا السلاح وحيداً يعرّف “الحزب” وهويّته وجمهوره.

وحده الموت، للأسف الكبير، ما يزال وسيلة التعبئة كأنّ التجربة الطويلة مع الخراب لم تكن كافية لزرع بعض الشكّ في صواب الطريق. من خرج من حربٍ لم يجلب منها سوى الدمار ما يزال يجهّز أطفالاً لحربٍ أخرى غير مدركٍ أنّ هذا الإصرار على تربية الأجيال في مناخ القتال لا يصنع مقاومين، بل يصنع غرباء عن وطنٍ بات يحتاج إلى السلام أكثر ممّا يحتاج إلى الصواريخ.

بلدنا مُتخم بالأزمات، و”الحزب” يطلّ بفعّاليّةٍ ضخمة تُعيد إنتاج مفردات الحرب والاصطفاف، بدل أن تفتح كوّةً صغيرة نحو الدولة

طريق “الانتصارات” لم يعُد يوصل

ما قالته بيئة “الحزب” نفسها بعد الحرب الأخيرة لم يكن سرّاً. ثمّة تعبٌ دفين، تململٌ مكتوم، وشعورٌ عميق بأنّ طريق “الانتصارات” لم يعد يوصل إلى مكان.

يريد أبناء هذه البيئة حياةً كريمة، كهرباء، عملاً ومدارس لأطفالهم، لا مآتم جديدة وراياتٍ سوداً في كلّ حيّ. لا تكون المصالحة مع اللبنانيّين بمهرجاناتٍ تعبويّة ولا بخطبٍ عن “الوحدة الوطنيّة” المفرغة من معناها، بل باعترافٍ حقيقيّ بأنّ نهج الغلبة والاستقواء على الشركاء في الوطن هو الذي أوصل البلاد إلى هذا الطلاق المعنويّ الشامل بين “الحزب” وكلّ من لا ينتمي إلى منظومته العقائديّة.

بدل أن يستثمر “الحزب” في فرصة المراجعة، ذهب إلى تعميق المسافة مع الجميع. عندما دعا الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم إلى مصالحةٍ مع الرياض، بدا وكأنّه يختبر بادرة حسن نيّة من خارج الحدود بعدما عجز عن تحقيق مصالحة داخلية مع اللبنانيّين أنفسهم. إلّا أنّ تلك الدعوة سرعان ما تبخّرت، لأنّ من يريد أن يمدّ اليد إلى الخارج عليه أوّلاً أن يصالح الداخل، ومن يريد أن يتحدّث عن الحوار عليه أن يخلع عباءة الوصاية على الدولة والمجتمع التي لبسها طويلاً.

لم يكن المشهد في مدينة كميل شمعون الرياضيّة عرضاً كشفيّاً بقدر ما كان عرضاً أيديولوجيّاً ورسالةً موجّهةً إلى الداخل أكثر من الخارج، تحديداً إلى كلّ من يشكّ في أنّ “الحزب” تغيّر أو ينوي التغيُّر.

 إقرأ أيضاً: “الحزب” من سلاح المقاومة إلى طبول الكشّافة

يربّي الأطفال على فكرة الموت

لم يتغيّر “الحزب”. ما يزال يربّي الأطفال على فكرة الموت البطوليّ بدل فكرة الوطن القويّ. ما يزال يرى في الحرب خلاصاً وفي الدولة خصماً، في حين أنّ خلاص لبنان الوحيد هو أن يعود كلّ طرف إلى منطق الدولة لا إلى منطق المحور. كلّ تجارب الحروب التي خاضها “الحزب”، من الجنوب إلى سوريا، أثبتت أصلاً أنّ فائض القوّة لا يبني وطناً، وأنّ السلاح الذي لا يحمى بإجماعٍ وطنيّ يصبح عبئاً حتّى على مَن يحمله.

الدعوات إلى “المصالحة” لا قيمة لها حين تأتي من أفواهٍ تبارك في اليوم التالي استعراضاتٍ عسكريّة في قلب العاصمة. ليست المصالحة شعاراً بل سلوك متراكم يبدأ من داخل “الحزب” نفسه حين يقرّ بأنّ مشروع الدولة أقوى من أيّ تنظيم، وأنّ السلم الأهليّ أغلى من أيّ شعارٍ مذهبيّ أو محورٍ إقليميّ. لا تكون المراجعة الصادقة بإرسال الوفود إلى العواصم بل أوّلاً بإعادة تعريف الذات داخل لبنان بتربية جيلٍ جديدٍ على حبّ الحياة لا على طقوس الموت.

مواضيع ذات صلة

نهاية نظام الإقطاع السّياسيّ

لم يتبقَّ من “نظام أبوات” الطوائف في لبنان، سوى أشباح زعامات تصارع عند عتبة الشيخوخة. حالة اليتم الصامتة التي تسيّج واقع الطائفة الشيعيّة بشكل أوضح…

بن سلمان إلى واشنطن: النووي الإيراني ورسم التّوازنات

قبل أيّام من وصول وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان إلى واشنطن، تتّجه الأنظار إلى البيت الأبيض حيث يُنتظر أن تشكّل الزيارة محطّة مفصليّة…

دستور فلسطينيّ بنكهة فرنسيّة

اتّفق الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس مع نظيره الفرنسيّ إيمانويل ماكرون خلال اللقاء الذي جمعهما في باريس في 11 تشرين الثاني، على تشكيل لجنة مشتركة تعمل…

لقاءات لوجاندر اللّبنانيّة: التّرسيم والميكانيزم

تأتي زيارة مستشارة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، آن كلير لوجاندر، لبيروت تعبيراً طبيعيّاً عن الحضور الفرنسيّ الدائم. زيارتها مكمّلة وغير متعارضة مع زيارات الموفد الرئاسيّ…