لم تسمح تداعيات اغتيال الأمين العامّ الأسبق لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله قبل عام بإعطاء حرمة الموت حقّها، فأيّ كلام كان سيُقال حينها لن يكون خارج صندوق “الشماتة” بنظر “الحزب” المولع بنظريّات المؤامرة وتعميمها.
غزوة الروشة الأخيرة مع كلّ ما حملته من مشهديّات سياسيّة وفنّية رديئة تركتنا نفهم بمجهر أدقّ وأعمق فداحة الخسارة التي مُني بها “الحزب”، فعندما اغتيل السيّد نصرالله ماتت معه عمليّاً كلّ الفرص لإصلاح الأزمة الأخلاقية التي يتخبّط فيها هذا الحزب، مرّة برواسب ماضي الاستقواء ومنطق الغلبة، ومرّات بمرارة خيارات العودة إلى الدولة.
لن نغالي في النفاق الزائد عبر القول إنّ نصرالله كان سيرفض غزوة الروشة ومشاهدها، لكنّه حتماً كان سيرسم سقفاً لمنسوب الاستفزاز، وهو الذي لم تسعفه السنوات التي عاشها بعد السابع من أيّار 2008 في الاعتذار من بيروت عمّا اقترفته الذهنيّة ذاتها بحقّ العاصمة وأهلها.
سقطة أخلاقيّة جديدة
فداحة الخسارة عند “الحزب” هي فقدانه لضابط الإيقاع القادر على تصميم معاركه بمنهجيّة منطقيّة وترتيب أوراق القوّة والضعف بما يلائم المرحلة السياسيّة، وما شاهدناه في الروشة جاء دليلاً دامغاً على أنّ بقايا قيادات “الحزب” باتت تنظر إلى بيئته بعين صغيرة بدلاً من تسهيل مخاض اندماجها في الدولة.
كم كان سيكون المشهد أجمل لو أضاء “الحزب” صخرة الروشة بعبارة اعتذار لبيروت عن جريمة السابع من أيّار أو عبارة تعلن الدخول في الدولة التي تحتضن الجميع أو أيّ محتوى يصارح بذكاء بيئة “الحزب” بأن لا خلاص لها إلّا الدولة، لكنّ ذهنيّة “الحزبّ لا تستمرّ على ما يبدو إلّا باصطناع الشعور الأقلّويّ واختراع الأخطار الداهمة على مصيره، فجاءت غزوة الروشة سقطة أخلاقيّة جديدة في كتاب السقطات السميك والثقيل على رفوف العقل والمنطق والدولة.
صورة الرئيسين الحريري الأب والابن استُثمرت عمليّاً لتزخيم رسائل الحرق السياسي
حتّى البدائل لم تكن موفّقة، فصورة الرئيسين الحريري الأب والابن استُثمرت عمليّاً لتزخيم رسائل الحرق السياسي، وفي الخطوة دليل آخر على أنّنا أمام حزب ينسى ما اقترف بحقّ الأب الشهيد دون أن ننسى أنّ صخرة الروشة التي اتّخذها هذا الحزب منصّة لتمرير رسائله العبثيّة تقع على بعد مئات الأمتار من موقع اغتيال الحريري الأب الذي اتّهمت المحكمة الدولية “الحزب” باغتياله، وعشرات الأمتار أيضاً عن مبنى تلفزيون المستقبل القديم الذي أحرقه “الحزب” نفسه. وكذلك مئات الأمتار من موقع اغتيال وليد عيدو ومحمد شطح ومعهم عشرات اللبنانيّين الأبرياء.
ازدواجيّة رهيبة
ثقيل هو القول بعد كلّ هذه السنوات إنّ القاتل يعود في النهاية إلى ساحة جريمته أو على مقربة منها، لكنّه يمكن حتماً رسم تساؤل أخلاقيّ يقول: أيستوي الذين قتلوا والذين يُقتلون؟
لن يبحث “الحزب” عن إجابة شافية على هذا التساؤل حتّى إنّه لن يحاول لعلمه أنّ لغة العقل والمنطق ستحرمه من الهبّات الشعبويّة غبّ الطلب عند كلّ مأزق، وقد تفتح الأبواب واسعة لمساءلته عن سرّ الازدواجية الرهيبة بين ما يُقال على المنابر الرسمية وبين ما يُذاع عبر مكبّرات الصوت في الشارع. وقد تطلق لحظة العقل سؤالاً أخلاقيّاً آخر يقول: كيف ستصالح الرياض قبل مصالحة بيروت؟
إقرأ أيضاً: من الرّوشة إلى الرّياض: ضاقت آفاق “الحزب”
محزن مغطس الحرج الذي أوصل “الحزب” نفسه إليه، ومفجع لبيئته قبل صورته الكبيرة ومهين للراحل حسن نصرالله نفسه في قبره، إذ ربّما في قرارة روحه اليوم غصّة تتحسّر على حزب رحل عنه قبل إكمال عقله.
