يتحرّك الوضع في المنطقة، سلباً وإيجاباً، فيما لبنان غارقٌ في قعر أزماته القديمة والجديدة، ولا يجد الطريق التي تُخرجه منها.
بفضل التضحيات الأسطوريّة للفلسطينيّين ودعم المملكة العربيّة السعوديّة ذات الوزن الكبير في الساحة الدوليّة، تتوالى الاعترافات بدولة فلسطين ويتقدّم حلّ الدولتين رغم أنف حكومة إسرائيليّة لا مثيل لتطرّفها بين كلّ حكومات العالم.
كلّ شيء يتغيّر في المنطقة إلّا لبنان. كلّ ما جرى فيه حتّى الآن هو استبدال فريق حاكم بفريق جديد. فالبلد ما يزال مهدّداً بتجدّد الصراع المدمّر مع العدوّ الإسرائيلي، والدولة عاجزة عن فرض احتكارها للسلاح، ولا تملك من جهة أخرى خريطة طريق لانتشال الاقتصاد من الركود والمصارف من الإفلاس.
يتحرّك الوضع في المنطقة، سلباً وإيجاباً، فيما لبنان غارقٌ في قعر أزماته القديمة والجديدة، ولا يجد الطريق التي تُخرجه منها
أداة لإعادة توزيع الثّروة
قبل أن يعبّر المبعوث الأميركي توماس بارّاك عن خيبة أمله من أداء الدولة اللبنانيّة في موضوع حصر السلاح، كنّا نظنّ أنّ الدولة التي تقصّر في معالجة المسائل الاقتصاديّة الأساسيّة والملحّة، تعوّض عن هذا التقصير بنجاحها في فرض احتكارها لحمل السلاح وحيازة الرضا الدوليّ عن جهودها لفرض الأمن.
لكنّ تأنيب بارّاك للدولة اللبنانيّة واتّهامها بالفشل في تطبيق شروط وقف إطلاق النار أظهرا أنّ الدولة عاجزة عن الوصول إلى تفاهم مع الأطراف الموقِّعة على اتّفاق تشرين الثاني بشأن السلاح، وهو ما يهدّد بتجدّد الحرب الإسرائيلية على لبنان بدعم أميركي أكثر وضوحاً هذه المرّة. في الوقت نفسه، الدولة مقصّرة في تحقيق المهامّ الاقتصاديّة المطلوبة منها، والبلد على شفير الاختناق.
أنجزت الحكومة مشروع موازنة 2026 وأحالته إلى المجلس النيابيّ. ولا شكّ في أنّ الحكومة ستفاخر كلّما تسنّى لها بأنّها أحالت مشروع الموازنة إلى البرلمان ضمن المهلة الدستوريّة، بعدما درجت حكومات سابقة على تجاوز هذه المهلة لفترات طويلة.
لكنّ هذه المأثرة ليست بالشأن العظيم، لأنّ إحالة موازنة العام المقبل بعد نهاية أيلول لا تلغي حقّ الحكومة في اقتراح الموازنة، بل يفقدها فقط حقّ إصدار الموازنة بمرسوم إذا لم يقرّ البرلمان المشروع بعد الشهر الأوّل من العام التالي.
ليست الأهمّيّة القصوى في تاريخ إنجاز مشروع الموازنة في مجلس الوزراء، بل في مضمون المشروع لجهة التوازن بين الإيرادات والنفقات، وتوزيع الاعتمادات بين إنفاق جارٍ وإنفاق استثماريّ وتحفيز النموّ الاقتصاديّ وإسهام الماليّة العامّة في تحسين معيشة اللبنانيّين. فالموازنة هي تعبير بالأرقام عن سياسة الحكومة الاقتصاديّة والاجتماعيّة ليس حيال الواقع الراهن فحسب بل واتّجاه مستقبل البلاد والأجيال المقبلة من اللبنانيّين. وبجانب الإيرادات تكتسب الموازنة أهمّيّة كبرى لأنّها أداة لإعادة توزيع الثروة بين طبقات المجتمع وتعكس السياسة الاجتماعيّة للدولة.
الخزينة هي أكبر المتضرّرين من تراجع الاقتصاد لأنّ الانكماش الاقتصاديّ يقلّص الأعمال ويضعف بالتالي موارد الخزينة
إنّ ما تسرّب من مشروع موازنة 2026 يوحي أوّلاً بنوع من التلاعب بالأرقام بسبب ادّعاء تحقيق فائض أوّليّ في العام المقبل، وهو أمر كان متعذّراً في ظروف اقتصاديّة وماليّة أفضل من الظروف الراهنة. وفي المنحى نفسه تدّعي الحكومة تحقيق توازن بين الإيرادات والنفقات، وبالتالي انتفاء العجز، عن طريق إخفاء اعتمادات ضخمة مثل خدمة الدين العامّ والزيادات المرجّحة على رواتب القطاع العامّ.
أكبر المتضرّرين
ليس مفاجئاً أن تخلو الموازنة من أيّ استشراف للمستقبل، عن طريق نفقات الاستثمار، بهدف تحفيز النموّ الاقتصادي وزيادة الوظائف وتعميم التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتوسيع قاعدتها، إذ لا يسمح ضعف الإيرادات بالطموحات الكبيرة، ولا حتّى الصغيرة، على هذا الصعيد.
لذلك، ودليلاً على عقم السياسة الماليّة في زمن العسر الماليّ والاقتصاديّ، يستأثر الإنفاق الجاري بما يقارب 90 في المئة من اعتمادات الموازنة، أكثر من نصفها لرواتب القطاع العامّ، فيما لا يزيد الإنفاق الاستثماريّ على 10 في المئة من النفقات.
إقرأ أيضاً:
في الموازنة التي أقرّتها الحكومة الفقراءُ يموّلون الفقراءَ، وأمّا الأغنياء فهم محيّدون، وحجّتهم أنّ العسر الاقتصادي يخنق قطاعات الأعمال ويحجب عنها الأرباح. من المتعارف عليه في العلوم الماليّة أنّ الضريبة على الاستهلاك تفتقر إلى العدالة الضريبيّة لأنّها تطال كلّ دخل العائلات ذات الدخل المحدود، بعكس الضرائب على الدخل التي هي أقرب إلى القاعدة الضريبيّة الذهبية “الغرم بالغنم”، أي أنّ التكليف الضريبيّ يكون بقدر ما يكسب الإنسان وليس بقدر ما ينفق. أي يتحمّل محدودو الدخل في نظامنا الضريبيّ رواتب الفقراء، موظّفي القطاع العامّ. هذه هي الصورة الإجماليّة لموازنة الدولة اللبنانيّة.
الخزينة هي أكبر المتضرّرين من تراجع الاقتصاد لأنّ الانكماش الاقتصاديّ يقلّص الأعمال ويضعف بالتالي موارد الخزينة. لذلك من المستحيل حلّ مشاكل الدولة الماليّة في سنة واحدة مثل سنة 2026. الحلّ هو باعتماد موازنة لخمس سنوات، يمكنها أن ترسم خطّة الدولة على المدى المتوسّط وتبيِّن سياسة الحكومة الطويلة الأمد على صعيد الماليّة العامّة والسياسة الاجتماعيّة والاقتصاد.
