حين يلوّح “الحزب” بأنّ تنفيذ قرار سياديّ من الحكومة لحصر السلاح غير الشرعي بيدها سيقود إلى حرب أهلية، وأنّ الحياة ستصبح معدومة إذا جرى المسّ بهذا السلاح، فإنّه لا يقدّم رأياً في شأن عامّ، بقدر ما يرسم حدود دولة موازية على خريطتنا المعهودة.
في لحظة كهذه يتبدّى كلام الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم كإعلان صريح عن انفصال معنويّ وسياسيّ!
هكذا لا نكون أمام موقف اعتراضيّ عابر، بل أمام منطق يقول للّبنانيّين إنّ الشرعية مرهونة بقبول سلاحنا وأمنكم متوقّف على إرادتنا، والدولة لا تملك حقّ التنفيذ إذا تعارض التنفيذ مع مصالحنا.
الأخطر في هذا الخطاب أنّه يحمل في طيّاته حجباً لمكانة الجيش اللبناني ولمعنى الشرعيّة.
فحين يُرسم مشهد الفوضى كخلاصة حتميّة لأيّ محاولة لحصر السلاح خارج مؤسّسات الدولة، يكون المقصود الفعليّ هو القول إنّ الجيش لا يستطيع أو لا ينبغي له أن يقوم بالمهمّة الطبيعية التي تقوم عليها الجيوش، والمتمثّلة بحماية الحدود وصون الداخل. بذلك يصبح الجيش تفصيلاً وتصبح مؤسّسات الدولة واجهة إجرائية!
منطق كهذا ينسف العقد الاجتماعي من أساسه!
يسلّم المواطن أمنه للشرعيّة كي تتكفّل بحمايته، لا ليُخيَّر بين استقرار مطعون فيه وبين حرب تُرفع سيفاً على رقاب الجميع
ابتزاز يفتح الشّهيّة؟
يسلّم المواطن أمنه للشرعيّة كي تتكفّل بحمايته، لا ليُخيَّر بين استقرار مطعون فيه وبين حرب تُرفع سيفاً على رقاب الجميع.
لا يمكن فصل هذا التهديد من موقع الوصاية عن سياقه الإقليمي. فإطلاقه بعد زيارة علي لاريجاني بيروت لا يبدو مصادفة بريئة، بل يُقرأ كارتباط عضويّ بين منظومة السلاح المحلّية والـ “إملاءات فوق الوطنية”.
هنا أيضاً تتمظهر صورة العدوان السياسي الإيراني على لبنان.. عدوان لا يقتصر على حدود النفوذ، بل يتمدّد إلى تعريف معنى الدولة نفسها.
كلّما ارتفع الصوت الداخلي رفضاً جاء الردّ بجرعة إضافية من التخويف: إمّا أن يبقى السلاح فوق الدولة وإمّا أن يُرفع شبح الخراب.
يفتح هذا الابتزاز شهيّة اللبنانيين طبيعيّاً على المواجهة السياسية والفكرية والمدنية مع مشروع الوصاية، لا من باب المغامرة بل من باب الدفاع عن الحقّ البديهيّ في دولة لا تُدار من خارج حدودها ولا تُحكم بمنطق فائض القوّة.
ليس المطلوب من اللبنانيّين أن يتبادلوا التهويل المضادّ، بل أن يختاروا ما يليق بهم: الحياة.
واختيار الحياة ليس شعاراً شعريّاً ولا ترفاً أخلاقيّاً. إنّه برنامج سياسي عمليّ قوامه إعادة الأمور إلى نصابها الأصيل: الجيش للجيش والأمن للأمن والسلاح للدولة حصراً.
اختيار الحياة يعني ردّ الاعتبار للسياسة بوصفها فنّ إدارة الخلاف لا إدارة الخوف.
كلّما ارتفع الصوت الداخلي رفضاً جاء الردّ بجرعة إضافية من التخويف: إمّا أن يبقى السلاح فوق الدولة وإمّا أن يُرفع شبح الخراب
ليس بالانفعال بل بالتّصميم
في مقاربة كهذه لا مكان للتعمية ولا للإنكار. من يلوّح بانهيار الحياة بوصفه نتيجة تلقائية لقرار شرعي، إنّما يقول عمليّاً إنّ بقاء لبنان مشروط ببقاء الدويلة، وإنّ الدولة لا يُسمح لها أن تكون دولة إلّا بقدر ما تُبقي لنفسها حقّ التعطيل.
والردّ على هذا المنطق ليس بالتراشق في المعجم الطائفي ولا باستدعاء ذاكرة الحرب، بل بتثبيت معنى الدولة كمرجع وحيد لمصير الناس.
الدولة حين تستعيد حقّها في الأمن لا تعتدي على أحد. والسلاح حين يُعاد إلى كنفها لا يصادر هويّة أحد.
الهويّة التي تُصنع بالخوف ليست هويّة، والأمن الذي يُبنى على قبول التهديد الدائم ليس أمناً بل هدنة معقّمة على حساب المستقبل.
قد يقول قائل إنّ الواقع أعقد من الوعظ، والتوازنات أقوى من الأمنيات. صحيح.
لكنّ التعقيد ليس ترخيصاً للاستسلام، والتوازن لا يعني أن تُسلّم الأكثريّة بحقّها في دولة طبيعيّة.
يمكن للسياسة أن تتّسع لكلّ الضمانات ولجداول زمنيّة مرحليّة ولحوار جدّي، لكنّها لا تتّسع لشرط واحد: أن يظلّ السلاح خارج الدولة، وأن يبقى المجتمع أسير احتمال الحرب كلّما جرؤت الحكومة على تنفيذ قرارها.
هذا هو الحدّ الفاصل بين التنازل الوطني المشروع والابتزاز الذي يساوي بين الوطن وسلاح فئة.
كلام الشيخ نعيم قاسم ليس رأياً في سياسة الأمن، بل رسم لحدود لبنان على مقاس سلاح حزبه وإشهار لعدم الثقة بالدولة وجيشها. والجواب لا يكون بالانفعال بل بالتصميم.
إقرأ أيضاً: “الحزب” والوهم الإيرانيّ: سنوات الحياكة ودقائق البيع..
اللبنانيون أصحاب حقّ أصيل في حياة طبيعية تحت سقف دولة واحدة.
أن تختار الحياة يعني أن ترفض أن يُدار مصيرك بتهديد الدمار.
يعني أن تعلن هادئاً وحاسماً استعدادك لكلّ المسارات الدستورية المتاحة من الرقابة والمحاسبة إلى صناديق الاقتراع وحتّى الاستفتاء لإعادة تعريف البديهي: السلاح للدولة والدولة للجميع.
أمّا الذين يربطون بقاء لبنان بامتيازهم على الدولة فليعلموا أنّ هذا البلد قام لأن يعيش وسيظلّ يختار الحياة، لا لأنّها الأسهل بل لأنّها الوحيدة التي تستحقّ أن تُصان.
