نصف قرن مضى على اندلاع حروب لبنان، ولم يبقَ من ظروفها وأسبابها سوى جغرافيا البلاد، الحاضنة للنزاعات المتبدّلة… وفي الخلفيّة انقسام اللبنانيين حول مسائل داخلية وخارجية، أبرزها بعد 1967 مدى الانخراط في النزاع العربي – الإسرائيلي، الذي سرعان ما تحوّل مواجهات عسكرية بين أطراف لبنانية وغير لبنانية، فتعسكرت السياسة وبات الصدام مسألة وقت، قبل حادثة عين الرمّانة وبعدها.
ما لبثت الحرب أن تحوّلت في عامها الثاني 1976 إلى مواجهات عسكرية بين سوريا والتنظيمات الفلسطينية. تحوُّل آخر باتّجاه معاكس فرضه تقارب قسريّ بين دمشق ومنظّمة التحرير إثر زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل في 1977، ولاحقاً توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في 1979. وفي العام نفسه سقط الشاه رضا بهلوي وبات لإيران الإسلامية موقع ودور في حروب لبنان المتواصلة عبر أطراف الداخل المجيّشين. وكان لإسرائيل يدها في لبنان الساحة بدءاً بالاجتياح الأوّل في 1978، ثمّ الاجتياح الأوسع في 1982 الذي قلب موازين القوى ومسار الحرب وأصبحت المواجهة تشمل إسرائيل والفلسطينيين وسوريا وإيران، علاوة على الجهات الدولية والعربية.
أبرز تحوّلات مرحلة ما بعد 1982 تمثّل في نشوء “الحزب” وعودة الجيش السوري إلى “بيروت الغربية” وتمركز إسرائيل في “الحزام الأمنيّ” في الجنوب وتراجع الاهتمام الدولي بلبنان واستكمال النزاع السوري – الفلسطيني في حرب المخيّمات. ثمّ جاءت حرب السنتين الأخيرتين في سياق آخر وانتهت بإقرار “وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف بدعم عربي ودولي وبإزاحة العماد ميشال عون من السلطة بعملية عسكرية لبنانية – سورية. سادت حروب متناسلة طوال خمسة عشر عاماً، متداخلة ومنفصلة في آن، جامعها قتل ودمار.
بين منتصف سبعينيّات القرن الماضي واليوم، وبعد فترة طويلة حافلة بالمآسي والويلات والانتظارات وخيبات الأمل
في مرحلة ما بعد الحرب أصبح القرار بيد سوريا والتنفيذ في لبنان. أمّا الواقع الداخلي فتمثّل في إطلاق يد الرئيس رفيق الحريري في الاقتصاد والأعمال، ونال “الحزب” حصريّة العمل العسكري في الجنوب للتحرير من الاحتلال. بكلام آخر، هانوي مقابل هونغ كونغ، حسب التوصيف الصائب لوليد جنبلاط.
هدف واحد تمّ التعامل معه بجدّية وصرامة: “الانقلاب على الطائف”، على حدّ تعبير ألبير منصور، بدءاً باغتيال الرئيس رينيه معوّض بعد أيّام على انتخابه وجعل المطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان أو حتّى الاعتراض العلنيّ عليه بالغ الكلفة، واستهداف مبرمج للأطراف المؤيّدة والمعارضة للطائف، خصوصاً في الوسط المسيحي. وفي ما يخصّ المفاوضات العربية – الإسرائيلية في التسعينيات، دخلت جميع الأطراف العربية المشاركة في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل باستثناء لبنان، المعني مباشرة بالجبهة المشتعلة في الجنوب. وجاء التحرير في 2000 بعدما أجبر “الحزب” إسرائيل على الانسحاب، ثمّ انسحاب الجيش السوري في 2005 ليفكّك “وحدة المصير والمسار”.
بعد 2005 استعادت القوى السياسية مواقعها وحساباتها، لا سيما المحظورة منها منذ التسعينيات. اغتيال الرئيس الحريري وتبدُّل طبيعة الأزمات وتطوّرات أخرى ساهمت كلّها في تأجيج الصراع الداخلي إثر أحداث 7 أيّار واتّفاق الدوحة من جهة، والحرب في الجنوب من جهة أخرى، التي أخذت مداها صيف 2006 وأدّت إلى نشر الجيش اللبناني في الجنوب وأنتجت القرار الدولي 1701. ظلّ الجمر تحت الرماد إلى حين اندلاع حرب الإسناد دعماً لغزّة في 2023 في ظروف لا تمتّ بصلة إلى حرب منتصف السبعينيات، ولا تشبه أيّاً من حروب الماضي وتسوياتها، وأبرزها تفاهم نيسان في 1996.
انتهت حقبات الماضي: نظام سوريا الأسد سقط، وإيران الدولة، التي تتفاوض مع واشنطن، تقدّمت على الثورة، وإسرائيل، التي يحكمها أقصى التطرّف
العودة إلى البدايات
بالعودة إلى البداية، ما حصل في 1975، وتحديداً لجهة الجانب العسكري، كان نتاج التحوّلات المفصليّة في النزاع العربي – الإسرائيلي جرّاء هزيمة 1967 وانطلاق الكفاح المسلّح بقيادة ياسر عرفات. في مسار ما بعد 1967 محطّتان أساسيّتان: واحدة داخلية تمثّلت في اتّفاق القاهرة في 1969، وأخرى إقليمية بعد إخراج منظّمة التحرير من الأردن وانتقالها إلى لبنان.
حوّل اتّفاق القاهرة، بعد أزمة سياسية غير مسبوقة دامت سبعة أشهر، اللاجئين الفلسطينيين إلى فدائيين مسلّحين، وبات لبنان قاعدة لا بديل عنها بعد خسارة الأردن،( وإلى ذلك الحظر المفروض في سوريا على التنظيمات الفلسطينية باستثناء الصاعقة الموالية لدمشق ولاحقا القيادة العامة).
جاء التحوُّل الوازن بعد الحرب العربية – الإسرائيلية في 1973، فبات لبنان ومنظّمة التحرير في مركب واحد، يجمعهما التهميش المتبادل. هكذا أصبحت منظّمة التحرير بمواجهة مع العرب بعدما سارت مصر وسوريا كلٌّ في طريقها بعد 1973، وبات لبنان في مواجهة مع التنظيمات الفلسطينية، وتكرّس الجنوب ساحةً وحيدة للحرب بين العرب وإسرائيل.
واقع الأمر أنّ الصدام بين الدولة والثورة في لبنان كان حتميّاً، مثلما حصل في الأردن، وإن في ظروف مختلفة. بعد هزيمة 1967 واحتلال كامل فلسطين وأراضٍ مصريّة وسوريّة كان العرب في صفّ واحد مع الفلسطينيين بمواجهة إسرائيل، وبعد 1973 تبدّلت الحسابات والأولويّات. أمّا في لبنان فما من شيء تغيّر بين طرفَي الخندق الواحد. راهنت الأطراف اللبنانية المؤيّدة لمنظّمة التحرير على رافعة الثورة الفلسطينية لتحرير لبنان من الرجعية والطائفية “واليمين الإمبريالي”، بينما جاء الرهان الفلسطيني على الرافعة اللبنانية لكن في الاتّجاه المعاكس، فكان الهدف الاحتماء والسيطرة على الدولة، رجعية كانت أم تقدّمية. في النهاية، وصل الطرفان إلى طريق مسدود وخسرا الرهان بكلفة عالية.
أمّا في لبنان اليوم فالشبه محدود مع لبنان الأمس. فقد تحوّلت الطائفية إلى مذهبية، والسلاح بيد طرف لبناني تدعمه إيران
كانت الظروف الداخلية في لبنان الستّينيّات والنصف الأوّل من السبعينيّات مؤاتية للدفع باتّجاه دعم غير مشروط وعابر للطوائف لمنظّمة التحرير في مناخ أيديولوجيّ بلغ الذروة وتلازَم مع تجييش شعبي (mass politics)، لا سيّما في أوساط أحزاب اليسار التي تأثّرت بالحركات الثورية الماويّة والماركسيّة وما بينهما.
الواقع أنّ قضايا المنطقة تبدّلت. ففي الخمسينيّات طغت القضية القومية بقيادة جمال عبدالناصر باتّجاه الوحدة العربية تمهيداً للتحرير، وبعد 1967 حلّت مكانها قضيّة فلسطين وقضايا الدول التي احتُلّت أرضها، مصر وسوريا تحديداً، واختلفت الوسائل والأهداف بين مرحلة وأخرى. في المقابل، كان لبنان جسر عبور إلى القضايا المنشودة ولم يكن هو القضيّة.
لبنان لم يكن سائراً باتّجاه الحرب
بمعزل عن السرديّات المتداولة، لم يكن لبنان بأوضاعه السائدة آنذاك سائراً باتّجاه حرب منتصف السبعينيات، فيما الحقبة الشهابية في أوجها ومشروع بناء مؤسّسات الدولة بأفضل المعايير الممكنة جارٍ على قدم وساق. وأوصلت الحياة السياسية التنافسية المعارَضة إلى السلطة في الانتخابات النيابية في 1968، ثمّ الرئاسية في 1970 بفارق صوت واحد. أكثريّة الصوت الواحد لم تحُل دون القضاء على المكتب الثاني الموالي لشهاب وإرسال أركانه إلى المحاكمة أو المنفى، بينما دول المحيط العربي تحت سلطة العسكر والأجهزة الأمنيّة.
جاءت انتخابات 1972 في عهد الرئيس سليمان فرنجية لتنتج مجلساً أكثر من ثلث أعضائه نوّاب جدد، وتمثّلت فيه القوى السياسية بمختلف اتّجاهاتها. وفي الاقتصاد كانت العملة الوطنية تنافس الدولار الأميركي وباتت الليرة اللبنانية عملة استدانة أو احتياط لبعض الدول أو الشركات العالمية.
اندلعت حرب 1975 في زمن بلغ فيه العمل السياسي العابر للطوائف أعلى مستوياته منذ 1920 وكان النموّ الاقتصادي متاحاً
لا يعني هذا أبداً غياب الشوائب والتفاوت في توزيع الثروات وفي الإنماء المناطقي، إلّا أنّ هذه السقطات بحدّ ذاتها لا تشعل حرباً بين جيوش دول وميليشيات، بل قد تسبّب أزمات قابلة للاحتواء. وبمقياس اليوم، من المفترض أن يؤدّي الانهيار الاقتصادي والماليّ الواقع منذ 2019 إلى حروب لا تنتهي.
حمل السّلاح ارتبط بالتّحوّلات الإقليميّة
باختصار، اندلعت حرب 1975 في زمن بلغ فيه العمل السياسي العابر للطوائف أعلى مستوياته منذ 1920 وكان النموّ الاقتصادي متاحاً. وكان القضاء الأكثر عدلاً، والموظّف الأكثر كفاية ونزاهة في الإدارة العامّة منذ الاستقلال. لم يحمل السلاح مقاتلو لبنان، من كلّ الانتماءات، بسبب انهيار الليرة وتبخّر الضمان الاجتماعي والودائع المصرفية أو الفساد، بل لأسباب أخرى مرتبطة بالتحوّلات الجذرية في النزاع العربي – الإسرائيلي بعد حرب 1967.
هكذا نشأ الذراع العسكري لحركة “المحرومين” بقيادة الإمام موسى الصدر الذي سجّل تيّاره فوزاً لافتاً في الانتخابات الفرعية في الجنوب عشيّة اندلاع الحرب في 1974. وهكذا تسلّحت الأحزاب المؤيّدة والمناوئة للتنظيمات الفلسطينية. ولم يطالب كمال جنبلاط ورشيد الصلح بعزل حزب الكتائب بعد 13 نيسان بسبب الركود الاقتصادي، علماً أنّه لا حزب الكتائب ولا حركة “فتح” كانا وراء الصدام القاتل في عين الرمّانة.
أمّا الهدف من اغتيال معروف سعد الذي كان على رأس تظاهرة في صيدا غايتها التهدئة لإيجاد تسوية مع شركة بروتيين لصيد الأسماك فكان إخراج الجيش اللبناني من المدينة واتّهامه بالعمالة والدفاع عن محتكري الأرزاق. الواقع أنّ افتعال الأحداث بدأ مع تظاهرة 23 نيسان 1969 وتكرّر في محطّات أخرى (هذه الأحداث وغيرها مفصّلة وموثّقة في كتابي “تفكّك أوصال الدولة…”).
في مرحلة ما بعد الحرب أصبح القرار بيد سوريا والتنفيذ في لبنان. أمّا الواقع الداخلي فتمثّل في إطلاق يد الرئيس رفيق الحريري في الاقتصاد والأعمال
عسكرة السّياسة
أمّا العامل الحاسم في المعادلة فكان عسكرة السياسة في لبنان حيث المجتمع منقسم والدولة مشلولة. والمقارنة مع الأردن واضحة الدلالة. ففي الأزمات الإقليمية الحادّة (وحقبة 1967 كانت أكثر حدّة من 1958)، كانت الدولة اللبنانية الطرف الأضعف في النظام الإقليمي العربي، حيث كان التنافس قائماً بين لبنان ودول الجوار العربي على تمدّد التنظيمات الفلسطينية وحركتها بعد 1967.
لا يعود عدم امتلاك الدولة في لبنان لأدوات السلطة المتاحة لسواها في الجوار العربي إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أو الأزمات السياسية التقليدية، بل إلى أنّ المجتمع مفتوح والحرّيات السياسية والإعلامية متاحة ونظام الحكم غير سلطوي وغير معسكَر.
تدخّل الجيش السوري في الأردن إلى جانب منظّمة التحرير ثمّ تراجع، وكان باستطاعة إسرائيل ودول عربية، لا سيما العراق، أن تتدخّل عسكرياً، إلّا أنّ استقرار الأردن في 1970 كان أكثر أهمّية للدول المعنيّة من استقرار لبنان في 1975 لأسباب بالغة التعقيد يطول شرحها. المفارقة أنّ المستفيد الأوّل من استقرار الأردن آنذاك، وتحديداً دول الجوار العربي وإسرائيل، كانوا أيضاً المستفيد الأوّل من حال اللاستقرار والفوضى في لبنان.
لبنان اليوم
أمّا في لبنان اليوم فالشبه محدود مع لبنان الأمس. فقد تحوّلت الطائفية إلى مذهبية، والسلاح بيد طرف لبناني تدعمه إيران. في الماضي انتصر لبنان لفلسطين موحّدة، بينما التأييد اليوم لجهة من دون أخرى. والأهمّ أنّ النزاع العربي – الإسرائيلي التقليدي لم يعُد قائماً. فلسطين بالدرجة الأولى هي محور النزاع اليوم وحاضرة في الوجدان الصهيوني التاريخي والسياسي والديني.
ما لبثت الحرب أن تحوّلت في عامها الثاني 1976 إلى مواجهات عسكرية بين سوريا والتنظيمات الفلسطينية
انتهت حقبات الماضي: نظام سوريا الأسد سقط، وإيران الدولة، التي تتفاوض مع واشنطن، تقدّمت على الثورة، وإسرائيل، التي يحكمها أقصى التطرّف، بدّلت قواعد الاشتباك في لبنان وسوريا وفلسطين. أمّا العرب فيقفون بين مشروع التطبيع الإبراهيمي وحلّ الدولتين، بينما هموم الرئيس دونالد ترامب “أميركا أوّلاً”، بلا دراية أو أفق، وفي تعارض كامل مع سياسات أميركا وحضورها في المنطقة والعالم. إلى ذلك، هناك قرارات دولية لا لبس فيها وأزمات بالجملة في لبنان واحتلال وإعادة اعمار بشروط صارمة، ولا أسباب تخفيفيّة تحدّ من تداعياتها.
إقرأ أيضاً: ذكرى 13 نيسان وسمير فرنجيّة: لنتناغم بالهويّة المركّبة
بين منتصف سبعينيّات القرن الماضي واليوم، وبعد فترة طويلة حافلة بالمآسي والويلات والانتظارات وخيبات الأمل، لم يعد للبنان سوى الخيار بين الدولة والساحة: فإمّا دولة تشبه سواها أو ساحة لا شبيه لها يتحمّل أعباءها لبنانيّو الأمس واليوم، المكوّنون من أجيال ثلاثة، علّها تصيب.