هل يكون اختتام السنة الخمسين لذكرى الحرب اللبنانية الحدّ الفاصل بين توالد الحروب منذ 13 نيسان 1975، وبين “المرحلة الجديدة”؟
هذا هو جوهر “الفرصة” المتاحة للّبنانيين التي يحدّثهم عنها الموفدون والمسؤولون العرب والأجانب، كي يخرجوا من جحيم الأزمات. السنوات الخمسون الماضية شهدت الكثير من الفرص والمبادرات المحلّية التي أحبطتها “حروب الآخرين على أرضنا”. تتناوب العديد من الدول على الاستثمار في هشاشة تركيبة البلد لتحويله ساحة لتبادل الضغوط العسكرية، وهو ما سلب سيادته واقتصاده.
استمرار الضّياع
خاطب رئيس الجمهورية العماد جوزف عون اللبنانيين قائلاً: “خمسون سنة، جيلان كاملان… ضاعت أحلامهم، وتبدّدت أعمارهم، ولا يزال الضياع مستمرّاً”. في سياق دعوته إلى دفن “الحرب للأبد وليكن سلاحنا هو جيشنا”، حذّر عون من استمرار “الضياع”. يوحي بذلك أنّ احتمال تمديد المعاناة اللبنانية ما زال وارداً إذا تواصل القصور اللبناني عن أن “نكون تعلّمنا من الخمسين سنة الفائتة”.
اختصر الرئيس اللبناني بإحدى عبارات كلمته في ذكرى الحرب، إشكالية التقاطع بين الهواجس والطموحات الطائفية والفئوية، وبين توظيف دول لقابلية الفرقاء اللبنانيين لأن تقودهم تحالفاتهم الإقليمية إلى تضخيم أدوارهم ونفخ أحجامهم بحيث يساهمون في إدامة الحرب. اعتبر عون أن “لا الأفكار التي هي أصغر من لبنان لها مكانتها في الواقع اللبناني، ولا الأوهام التي هي أكبر من لبنان قدّمت أيّ خير لوطننا”.
في الحالة الراهنة من أزمة لبنان ينطبق هذا التقاطع على وضعيّة “الحزب” ومسألة تسليم سلاحه للدولة أو نزعه. الأفكار “الصغيرة” هي الهواجس والطموحات الطائفية التي تنتج تناقضاً في السلوك: تضخيم الشعور بالمظلوميّة لتبرير حمل السلاح والتقوقع تارة، أو الشعور بفائض القوّة الذي يؤدّي إلى التفوّق على باقي الطوائف تارة أخرى.
في كتابه الأخير يروي سمير فرنجية وقائع من الحرب أضاءت طريقه نحو منهجيّة عمليّة للخروج من دائرة العنف
أمّا “الأوهام” فهي تلك التي أقنع أصحابها أنفسهم بقدرتهم على لعب أدوار خارج حدودهم الوطنية، وهو اعتقاد أقرب إلى المراهقة بالقدرة على تطويع الخارج لمصلحتهم، بصرف النظر عن شركائهم. فالتقلّبات جعلت الاتّكال على دولة بعينها فاشلاً لأنّها تقلب موقع فئات لبنانية رأساً على عقب.
ضعف الخارج لا يُغني عن تسوية الدّاخل
حين يردّد عون ما بات حكمة ينطق بها الجميع، وهو أن “لا أحد يُلغي الآخر”، فذلك لأنّه اختبر تقويض مؤسّسات الدولة بخروج جماعة عن الانتظام العامّ… وهو ما يسهّل للخارج الاتّكاء على قاعدة محلّية. شدّد عون على أنّ “أيّ سلاح خارج إطار الدولة يُعرّض لبنان للخطر”. والتخلّي عن التعبئة الطائفية والأوهام لا يتمّ إلّا بتسويات داخلية حتّى إذا ضعف تدخّل الخارج.
أحد أسباب تناسل الحرب في لبنان أنّه كلّما تراجع أبطال مرحلة، أو فشلت أفكارهم “الصغيرة” و”أوهامهم”، يلجأ الفريق المقابل إلى التعاطي معهم على أنّهم هُزِموا، متناسياً أنّه سبق أن مرّ بتجربة الفشل في الانفراد والاستقواء بالخارج لممارسة العنف. هكذا يتمّ التعاطي مع كلّ مرحلة جديدة على طريقة نكء الجراح بالعودة إلى التاريخ بهدف الانتقام.
المراجعة… تنقصها تنقية الذّاكرة؟
صحيح أنّ بعض القادة السياسيين والأقطاب اعترف بخطئه في الانغماس بالحرب، لكنّ الأمر لم يتحوّل إلى ثقافة سياسية تتخطّى الفكرة الشعبية القائلة “تنذكر وما تنعاد”. الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط أقرّ بانزلاق حزبه إلى الحرب. رئيس حزب “القوّات اللبنانية” سمير جعجع اعتذر إلى من أساء إليهم خلال الحرب. أحد أهمّ رموز “الحركة الوطنية” الراحل محسن إبراهيم أقرّ بـ”أنّنا حمّلنا البلد أكثر ممّا يحتمل”، في معرض إشارته إلى التحالف مع منظّمة التحرير الفلسطينية. سامي الجميّل تحدّث عن اشتراك حزبه مع الآخرين في المسؤوليّة… لكنّ المراجعة للخطوات والقرارات السابقة التي أطالت الحرب بقيت فئوية ولم تتحوّل إلى تنقية للذات وللذاكرة الوطنية.
صحيح أنّ بعض القادة السياسيين والأقطاب اعترف بخطئه في الانغماس بالحرب، لكنّ الأمر لم يتحوّل إلى ثقافة سياسية
كثر هم الرموز الذين سعوا إلى وقف حرب 13 نيسان 1975. بعضهم كلّفتهم المحاولة حياتهم أمثال المفتي حسن خالد والإمام موسى الصدر وكمال جنبلاط، حين اجتمع مع بشير الجميّل وسعى إلى تجنيب بلدة الدامور المجزرة، لكنّ الاندفاع السوري نحو تحويل الوجود العسكري لنظام حافظ الأسد إلى وصاية متحكّمة بالمشهد اللبناني، أفشلهم… اغتيال رفيق الحريري كان بالتأكيد بسبب تمسّكه باتّفاق الطائف.
ذكرى سمير فرنجيّة وإعلاء ثقافة الحوار
منذ ثماني سنوات، تتزامن ذكرى الحرب مع فارق يومين من ذكرى وفاة أحد السياسيين القلائل الذين لعبوا دوراً كبيراً وصامتاً في محاولات جدّية لوقف الحرب، وهو المفكّر والنائب السابق سمير حميد فرنجية الذي هزمه المرض في 11 نيسان 2017، بعدما أنجز آخر كتبه المؤثّرة عن تجربته في الحرب: “رحلة إلى أقاصي العنف”. إنّه أحد القلائل الذين اكتشفوا باكراً الحاجة إلى وقف التقاتل إبّان حرب السنتين.
هندس سمير فرنجية العلاقة بين فريق بشير الجميّل وقيادة حركة “فتح” لوقف النار والقصف المتبادل بين شطرَي العاصمة، والذي كانت تفشله، كلّما نجح، قوات “الصاعقة” السورية والجبهة الشعبية – القيادة العامّة الموالية لدمشق. وفي أوائل الثمانينيات، كان مايسترو الحوار بين وليد جنبلاط وبشير عبر فريقين من الجانبين في عدادهما مروان حمادة وجوزف أبو خليل. لكنّ القصف السوري على الأشرفية وغيرها كان الرسالة بوجوب وقفه.
لم ييأس قبل تلك المحاولة وبعدها. كان محرّكه تلمّسه خطورة المشروع الإسرائيلي لإنشاء تحالف أقلّيّات تقسيميّ في المشرق العربي. أنشأ بالتعاون مع الراحل العلّامة الواسع الأفق السيّد هاني فحص “المؤتمر الدائم للحوار الوطني”، الذي تنقّل رموزه بين المناطق كافّة من أجل ندوات تعزّز ثقافة الحوار. ثمّ أسّس “الملتقى اللبناني للحوار”.
في كتابه الأخير يروي سمير فرنجية وقائع من الحرب أضاءت طريقه نحو منهجيّة عمليّة للخروج من دائرة العنف
لا حاجة إلى التذكير بأنّه كان، في الخفاء وتحت القصف، “دينامو” المساهمة مع البطريرك الراحل نصرالله صفير ورئيس البرلمان الراحل حسين الحسيني في صوغ مسوّدة “وثيقة الوفاق الوطني”، التي ناقشها وأقرّها النوّاب في الطائف لاحقاً. شاركته مجموعة من بينها وزير الثقافة الحالي غسان سلامة والراحل نسيب لحود وأعضاء في “لقاء قرنة شهوان”.
إقرأ أيضاً: 13 نيسان 1975: ذاكرتنا ليست للنّسيان
في كتابه الأخير يروي سمير فرنجية وقائع من الحرب أضاءت طريقه نحو منهجيّة عمليّة للخروج من دائرة العنف. يقول: “أخْذ مسافة من انتماءاتنا الطائفية يتطلّب الإقرار بمسؤوليّتنا المشتركة عن الحرب”. ودعا إلى أن “نتقبّل الهويّة المركّبة والانتماءات المتعدّدة في ذواتنا كي نتناغم”.
لمتابعة الكاتب على X: