بعد انتهاء الجلسة الثالثة غير المباشرة بين الإدارة الأميركية والدولة الإيرانية، شهدت العاصمة العُمانية مسقط أوّل لقاء مباشر بين الطرفين، ليكون المخرج الدبلوماسي الذي يلبّي الشرط الذي وضعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو التفاوض المباشر، في حين لبّى تبادل الرسائل المكتوبة الذي استمرّ نحو ساعتين ونصف ساعة، الشرط الذي وضعه المرشد الأعلى للنظام الإيراني، وهو التفاوض غير المباشر.
أمّا لماذا الجلسة الثالثة المعلنة للتفاوض غير المباشر، فلأنّ جلسة يوم السبت في مسقط جاءت بعد جلستين سابقتين تمّ فيهما تبادل الرسائل بين ترامب والمرشد، ولأنّ الوصول إلى عقد هذه الجلسة وما نتج عن تبادل الرسائل كان نتيجة حوارات ومفاوضات غير معلنة جرت خلال الأسابيع التي تلت وصول ترامب إلى البيت الأبيض. ولذا سمحت هذه المفاوضات غير المعلنة بتعزيز الاعتقاد بأنّ تبادل الرسائل كان بمنزلة تفاوض غير مباشر، خاصة أنّ الردّ الإيراني “المكتوب” على رسالة ترامب كان تطوّراً نوعيّاً في الموقف الإيراني الذي سبق أن رفض مثل هذه الآليّات، أو على الأقلّ امتنع عن الكشف عنها وإظهارها أمام الرأي العامّ، أو أجاب عليها شفهيّاً عبر الوسطاء.
بحث الإطار العام
ما خرج عن أجواء جلسة التفاوض غير المباشر لا يخرج عن حدود ما اتّفق الطرفان على وصفه بأنّه “إيجابيّ وبنّاء”، من دون أيّة تفاصيل عن النقاط التي جرى التفاهم عليها أو التي عزّزت هذه الإيجابية، باستثناء اللقاء الدبلوماسي العابر بين كبيرَي المفاوضين المبعوث الخاصّ للرئيس الأميركي ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيرانيّ عباس عراقتشي.
الحديث عن التفاهم والتوافق على الأسس العمليّة لجلسات التفاوض التالية، وأنّ الجلسة المقرّرة يوم السبت المقبل ستكون مخصّصة لبحث الإطار العامّ للتفاوض والاتّفاق على الوصول إلى نتائج عمليّة بعيداً عن إتلاف الوقت أو الاستنزاف أو التفاوض للتفاوض، قد يشكّل مصدر تهديد لهذه المفاوضات واستمرارها أو وصولها إلى النتائج المطلوبة في غضون مهلة الشهرين التي حدّدها ترامب، أو على الأقلّ في الأسابيع المقبلة التي تسبق زيارته للمملكة العربية السعودية، التي من المفترض أن تشكّل ترجمة عمليّة لاستراتيجيّته في إنهاء الحروب، سواء في أوكرانيا أو الشرق الأوسط، والانتقال إلى الهدف الرئيس المتمثّل بالتصدّي للطموحات الصينية باعتبارها المحور الأساس لاهتمامات الرئيس الأميركي.
بعد انتهاء الجلسة الثالثة غير المباشرة بين الإدارة الأميركية والدولة الإيرانية، شهدت العاصمة العُمانية مسقط أوّل لقاء مباشر بين الطرفين
مغريات اقتصاديّة
لا شكّ أنّ الجانب الإيراني وضع على طاولة المفاوضات الكثير من المغريات للإدارة الأميركية التي تجعل من الصعب عدم القبول بها، سواء في الجانب المتعلّق بالبرنامج النووي مع الحفاظ على الخطوط الحمر الأساسية للنظام، أو في البعد الاقتصادي والاستعداد لفتح المجال أمام الاستثمارات الأميركية بشكل كبير في الأنشطة الاقتصادية والبنى التحتية في إيران.
شكّلت المغريات الاقتصادية وفتح الأسواق الإيرانية أمام الاستثمارات الأميركية المحور الأساس الذي دفع الرئيس ترامب عام 2018 للانسحاب من الاتّفاق النووي، عندما اتّهم الشركاء في الاتّفاق بالاستفادة من عائداته الاقتصادية وحرمان أميركا منها. لذلك تمثّل أسواق متعطّشة لاستثمار كبير وضخم قد يتجاوز تريليون دولار في المرحلة الأولى هدفاً لإدارة ترامب، وتسمح لها بتحويل فرصة التفاوض إلى إعادة تطبيع علاقاتها مع النظام الإيراني والانتقال بها إلى مرحلة جديدة من تفاهمات أكثر شمولية.
من الجانب الإيراني، يعني دخول الاستثمارات الأميركية السوق الإيرانية ضمان عدم عودة واشنطن إلى سياسة العقوبات، الأمر الذي يمنح إيران غطاءً أمنيّاً واستقراراً في مواجهة أيّ تهديدات أو تحدّيات من خارج الإدارة الأميركية، بالإضافة إلى أنّها ستساعد طهران على العودة إلى سياسة التوازن والخروج من دائرة الابتزاز أو الاستحواذ التي خضعت لها في علاقتها مع الحليفين الروسي والصيني خلال العقود الماضية.
تتمسّك إيران بالسقف الذي رسمه الاتّفاق النووي عام 2015 (خطّة العمل المشتركة الشاملة) بينها وبين السداسيّة الدولية، وهي على استعداد لاتّخاذ خطوات تضمن العودة إلى المستويات التي حدّدها هذا الاتّفاق لأنشطتها النووية، أيّ التخلّص من مخزونها من اليورانيوم المخصّب بدرجة 60 في المئة بالكامل، بالإضافة إلى تخفيض مستويات مخزونها من اليورانيوم المنضّب بمستوى 20 في المئة والعودة إلى السقف الذي حدّده اتّفاق 2015، مع تعديل جوهري في النقطة الخاصّة بتخزين هذه الموادّ على الأراضي الإيرانية، بما يسمح لإيران التخلّص من السيطرة الروسية في تزويدها الوقود المخصّص لمفاعلات توليد الطاقة الكهربائية، على أن يكون بيع الفائض من الوقود الذي تنتجه أو اليورانيوم المخصّب بدرجات أعلى بشكل مباشر في الأسواق العالمية أو الأميركية من دون الحاجة إلى إجرائها عبر الوسيط الروسيّ.
تطالب طهران الإدارة الأميركية باتّخاذ خطوات تعزّز الثقة والإيجابية من حيث إمكان التعاون المستقبلي في الملفّات الأخرى
تهديد حقيقيّ
إلى جانب هذه الآليّة الخاصّة بتخصيب اليورانيوم، إيران على استعداد لفتح منشآتها النووية، تحديداً أمام عمليات تفتيش مشدّدة، والقبول باستمرارها مدى العمر، بما يساعد على طمأنة المجتمع الدولي إلى سلميّة هذا البرنامج.
ستكون إيران على استعداد أيضاً للتخلّي عن المحاذير التي وضعتها أمام التوقيع على البروتوكول الإضافي الخاصّ بالتفتيش المباغت، الأمر الذي يمنح مفتّشي الوكالة الدولية للطاقة الذرّية حرّية الحركة من إيران وإليها وبين المنشآت النووية، ويدفعها للإجابة على كلّ أسئلة الوكالة عن طبيعة عمل بعض هذه المنشآت التي سوّفت بالإجابة عليها. من هنا قد تشكّل الزيارة المرتقبة لمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية رافائيل غروسي لطهران نقطة تحوُّل في هذه العلاقة.
في مقابل هذه الخطوات الإيرانية، تطالب طهران الإدارة الأميركية باتّخاذ خطوات تعزّز الثقة والإيجابية من حيث إمكان التعاون المستقبلي في الملفّات الأخرى، وذلك من خلال وضع آليّة عمليّة ومحدّدة لإلغاء العقوبات الاقتصادية التي تمنع الشركات العالمية من الاستثمار، خاصة تلك الموجودة في دول المحيط العربي والخليجي المتحفّزة لدخول السوق الإيراني المتعطّش.
إقرأ أيضاً: إيران: المفاوضات مع “الشّيطان الأكبر”
الخطوات الأهمّ التي تطالب بها طهران هي الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمّدة في البنوك العالمية، خاصّة في العراق وقطر والصين والهند والدول الأخرى، بحيث تشكّل خطوة لتهدئة الأوضاع الاقتصادية الداخلية وتسمح بإعادة إطلاق التنمية التي ستخفّف الأعباء عن المواطن الإيراني، الذي شعر بإيجابية التفاوض نتيجة استعادة العملة الوطنية لبعض قيمتها وقوّتها أمام الدولار الأميركي.
على الرغم من كلّ هذه الإيجابية وإمكان الانتقال من دائرة التهديد إلى دائرة التعاون، يشكّل عامل الوقت مصدر تهديد حقيقي لهذه المفاوضات وأهدافها، فهو يسمح للقوى المتضرّرة في الإدارة الأميركية وداخل النظام الإيراني بتكثيف جهودها لعرقلة وإفشال هذه المفاوضات، خاصّة أنّ البيت الأبيض استبعد عنها وزارة الخارجية والأمن القومي والبنتاغون، في حين يجلس المتشدّدون في إيران متحفّزين للانقضاض على هذه المفاوضات في أوّل فرصة تسنح لهم، خاصة إذا ارتفعت الأصوات المعارضة داخل أميركا، أو ذهب المفاوض الأميركي إلى المزيد من التشدّد وأبدى تجاوباً مع طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لن يستسلم ويقبل باحتفاظ إيران بأوراق قوّة، خاصّة أنّه من المطالبين باعتماد النموذج الليبي مع البرنامج النووي الإيراني والسلاح الصاروخي.
