استخدم ضيف الزميل عبادة اللدن في برنامجه “مؤشّرات سياسية” على قناة “العربية”، تعبير “الخرف الاقتصادي” في وصف قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فرضه رسوماً جمركية في 2 من نيسان الجاري. وأن يأتي التعبير من أكاديمي متخصّص، فإنّه يضفي على الوصف حمولة علميّة، ربّما هي الأدقّ في تبرير تراجع ترامب عن قراراته تحت عنوان “تعليقها” في 9 من الشهر نفسه، أي بعد 7 أيام فقط لا غير. خسر العالم والولايات المتحدة خلال تلك الأيّام ما لا يحصى ولا يُعدّ من مئات المليارات.
يسري الخرف هنا على واقعة مغادرة معايير العقل. كان باحثون وأكاديميون ورجال أعمال وكبار المحلّلين الماليّين، وهم أهل عقل، وأدواتهم مؤشّرات وأرقام وتجارب، يحذّرون وينهَون ويتخوّفون ويرفضون. لكنّ السيّد في البيت، بصفته “المنقذ” لأمّة يستغلّها “الأشرار”، غرف من خارج معايير العقل وقوانينه. بدا مستشارو الرئيس، وهم أهل معرفة وخبرة، مستبسلين في اجتراح نظريّات غبّ الطلب لملاقاة غرائز رئيسهم وحمل الماء إلى طواحينه. حتّى إنّ وزير الخزانة سكوت بيسنت نصح، مزهوّاً مؤمناً بحكمة رئيسه، أن لا تردّ الدول بالمثل، وكاد يقول “استسلموا جميعا”.
في علم السياسة وسلوك الساسة، قد يستغرق الأمر زمناً طويلاً قبل أن تظهر نتائج أيّ عبث وتعجّل وتهوّر يأخذه أصحاب القرار. هكذا تماماً اكتشف الأميركيون بعد عقود كوارث قرارات اتّخذها رؤساؤهم، فأغرقت بلادهم في وحول فيتنام أو العراق أو أفغانستان أو غيرها، إضافة إلى ما دفعه أهل تلك البلدان من أثمان وأوجاع. في علم الاقتصاد لا ينتظر الأمر عقوداً ولا حتّى ساعات. في دقائق قليلة استفاقت الأسواق غداة “يوم التحرير” الذي تفاخر ترامب بإعلانه، على تدحرج كان صاعقاً، على الرغم من أنّه كان متوقّعاً حتّى من قبل المبتدئين.
في علم السياسة وسلوك الساسة، قد يستغرق الأمر زمناً طويلاً قبل أن تظهر نتائج أيّ عبث وتعجّل وتهوّر يأخذه أصحاب القرار
سقوط التّرامبيّة
شيء ما غيّرته الواقعة. بدت الولايات المتّحدة في فرّ. وبدت الصين في كرّ مستعدّة للحرب الكبرى من دون تراجع أو “تعليق”. كالت عواصم أوروبا كثيراً من الأوصاف على ذلك “الخرف”، بما لا يليق بعلاقات تاريخية اتّسمت بها ضفّتا الأطلسي منذ النصر المشترك في الحرب العالمية الثانية. جمع بلدانَ المنظومة الغربية مذّاك سرّاءٌ وضرّاء، وإذا بواشنطن تلسعهم بسوطها خبط عشواء لا تفرّق بين عدوّ وحبيب.
خلال أسبوع ربّما سقطت الترامبيّة، حتّى لو استمرّت جلبتها تجذب مدمنين على جرعات من شعبويّة تدغدغ المشاعر وتبيع السوق أوهاماً. كان سورياليّاً ذلك الوصف الذي أطلقه إيلون ماسك حليف ترامب على مستشار الرئيس للتجارة والتصنيع بيتر نافارو، وهو ليس إلّا مستشاراً لا يملك القرار. لم يصفه بالخرف، بل بأنّه “غبيّ” فقط.
خسرت الأسواق. وهي بالنهاية أسواق الأغنياء التي تعبّر عنها بورصات نيويورك وباريس ولندن وطوكيو وغيرها. الكارثة كبيرة، لكن يمكن استيعابها وتصحيحُ قدَرِها كما سبق للأغنياء أن فعلوا في “أيّام سوداء” شهدتها الأسواق. في رأس رجل أعمال مثل ترامب أنّ البيزنس ربحٌ وخسارة. وهو إن يشنّ بعزم حرباً تجارية، فهو يتراجع عنها بمكابرة من دون أن يرفّ له جفن. ففي “يوم التحرير” أخبر ناخبيه أنّه يريد “تركيع” الخصوم. ويوم “التعليق” أخبرهم أيضاً أنّه فعل ذلك وهم يجرون خلفه لإبرام صفقات.
في الحديث عن الخرف تتبادر إلى الذهن تلك المحاضرة في علم السياسة والتاريخ التي أتحفنا بها الرئيس إلى جانب ضيفه بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض. تحدّث عن قطاع غزّة بوصفه عقاراً “رائعاً” ما يزال يعوّل على امتلاكه. أمّا أبناء تلك الأرض فهم سكّان عقار يجري تحديثه لا غير، وكما في أيّ مشروع تطويريّ هم تفاصيل يسهل “شحنها” إلى مصائر بديلة. لا سياسة في الكلام ولا تاريخ ولا حتى أبجديّات ترتبط على الأقلّ بعلوم المصالح وديباجات الدبلوماسية. ومع ذلك ستجد دائماً من يرى أنّ هذا “الساحر” سيغيّر بالصدفة والحظّ الشرق الأوسط.
في دقائق قليلة استفاقت الأسواق غداة “يوم التحرير” الذي تفاخر ترامب بإعلانه، على تدحرج كان صاعقاً
في واشنطن رئيس يقود وإدارة تُقاد. يمسك الرجل بالبيت الأبيض والحزب الجمهوري الحاكم والكونغرس بغرفتَيه. يسيطر على البنتاغون ووزارة الخارجية والأمن القومي بمستشاره والأجهزة التي ينسّق فيما بينها. ليس صحيحاً ما يُشاع عن انقسام داخل تلك الإدارة في شأن الموقف من إيران أو سياسة البلد في سوريا أو مقاربة العلاقة مع أوروبا.. إلخ. لا صوت يعلو فوق صوت الرجل الذي وعد أن “تعود أميركا عظيمة من جديد”.
رئيس مزاجيّ
كان الرئيس يحاط في السابق بإدارة. بات الرئيس يحاط برجاله. يكفي تأمّل فضيحة تطبيق التراسل “سيغنال” لاكتشاف الخفّة التي يتهافت بها هؤلاء على تنفيذ أوامر سيّدهم والتنافس على طاعته. حتّى إنّ نائب الرئيس، جيه دي فانس، لم يكن يعلم شيئاً عن قرار رئيسه (وهو نائبه) بدء حرب ضدّ الحوثيين في اليمن.
إقرأ أيضاً: ترامب يهدي الصّين “يوم التّحرير”
قد تبدو لحظة الخرف الاقتصادي التي تحدّث عنها الأكاديمي الخبير قد طُويت بعدما ارتكبت من الكبائر ما ارتكبت وعاد السوق إلى رشده. الأسواق تحبّ التوقّع وتمقت المفاجآت. غير أنّ العالم، وخصوصاً الشرق الأوسط، أمام سنوات من عدم التوقّع على النحو الذي يجعل عواصم المنطقة متنبّهة متوتّرة جاهزة للانخراط الدائم في تماسّ مع ذلك الرجل الذي قد ينام على مزاج ويستيقظ على آخر. أمّا أن يخطئ أو يصيب، فذلك حظّ قد يفيد المنطقة وقد يضرّها (والله أعلم). قد يجد البعض في تلك الطباع نعمةً، ذلك أنّ الرجل الذي يُظهر عناداً، يتأثّر بهمس الآذان، فيعود برشاقة عن قرارات اعتُبرت نهائية. حتّى إنّه من دون حرج قد ينفي تماماً أنّه قد اتّخذ يوماً تلك القرارات. هل تعرفون ماذا تعني أعراض تلك الحالة؟
لمتابعة الكاتب على X: