العراق: القفص إيرانيّ والحارس أميركيّ

عبر العشرين سنة الماضية، تُركت إيران ترتّب أوضاعها في العراق، نفوذاً وهيمنةً وتمدّداً ومصادرةً ووصاية، حتّى وصلت إلى مرحلة تطبيع مشروعها، بحيث لم تعد في حاجة إلى أن تديره بنفسها أو حتى من خلال أدواتها المباشرة. لم تعد هناك ضرورة لمبعوثيها الذين كانوا يعالجون ما يحدث من فجوات، كما كانت عليه الحال يوم كان حيّاً قاسم سليماني، الذي كان يقضي جلّ أوقاته في رحلات مكّوكيّة من وإلى العراق، حتّى إنّه قُتل هناك نهاية عام 2020.

 

لقد انتهت المرحلة التي كانت إيران فيها تشعر بأنّ وجودها في العراق قد يتعرّض للخطر أو الزوال. ليس هناك في الأفق ما ينذر بوقوع احتجاجات عاصفة، كما حدث في تشرين الأوّل 2019. ذلك ما صار بعيد المنال بعدما أخذ النظام حيطته المسبقة. وقد وصل مقتدى الصدر إلى قناعة مفادها أنّ فوضاه قد تسبّب له خسارة موقعه السياسي وتطيح كلّ مكتسباته. سيظلّ معارضاً دائماً، لكن ضمن حدود مرسومة بطريقة صارمة لا يغادرها. غير أنّ الأهمّ من ذلك كلّه أنّ مسألة الحكم قد حُسم أمرها، فصارت الدولة مُلكاً مسجّلاً باسم تحالف “الإطار التنسيقي”، وهو مجموعة الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران علناً ومن غير شروط.

تخادم ثنائيّ

كلّ ما قامت به إيران وما فعلته عبر العشرين سنة الماضية لم يقع في الخفاء، بل كان على مرأى من الولايات المتّحدة. صحيح أنّ الأخيرة سحبت قوّاتها من الأراضي العراقية عام 2011، غير أنّها أبقت العراق في دائرة نفوذها وتحت رعايتها، علاوة على استمرارها عسكريّاً من خلال قواعدها الثابتة. الأهمّ من ذلك أنّ أموال العراق من صادراته النفطية لا تزال تذهب إلى نيويورك، ومن هناك يتمّ تحويل ما تحتاج إليه الحكومة العراقية.

ما هو واضح منذ البدء أنّ العراق كان دائماً بالنسبة لإيران مصدر العملة الصعبة في ظلّ العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة عليها

ما هو واضح منذ البدء أنّ العراق كان دائماً بالنسبة لإيران مصدر العملة الصعبة في ظلّ العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة عليها. وإذا ما كانت الطبقة السياسية الحاكمة في العراق قد وجدت في تمويل إيران بالعملة الصعبة فرصة للتعبير عن الولاء المذهبي، فإنّ الإدارات الأميركية كانت على معرفة كاملة بكلّ دولار يتمّ تحويله إلى إيران، سواء من قبل المؤسّسات الرسمية أو المصارف الأهليّة التي تمّ تأسيسها للقيام بتلك المهمّة. وما الإعفاءات الأميركية التي كانت تسمح للعراق بالتعامل اقتصاديّاً مع إيران خارج قانون العقوبات إلّا دليل صارخ على أنّ كلّ شيء كان متّفقاً عليه ليظلّ الاقتصاد الإيراني في منأى عن الانهيار الشامل.

جرعة سمّ إيرانيّة

بهذا تكون الولايات المتحدة وإيران قد تعاونتا على رسم صورة مستقبل العراق. وهو عراق إيرانيّ. لا قيمة اليوم لما يتردّد من أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب طلب من إيران عدم التدخّل في شؤون العراق واحترام استقلاله وسيادته على أراضيه وحلّ ميليشياتها هناك شرطاً للبدء بمفاوضات من أجل إقامة علاقات طبيعية وعودة إيران إلى المجتمع الدولي بطريقة ايجابية. كلّ ذلك لا ينفع العراق في شيء. فالميليشيات على سبيل المثال يمكن حلّها بيسر. لكنّ ما سيحصل بعد ذلك سيكون أسوأ بكثير. مثال ذلك يختصره السؤال الآتي: “أين ذهبت منظمة بدر التي يتزعّمها هادي العامري، والتي تأسّست في إيران جناحاً عسكرياً للمجلس الأعلى لما سُمّي بالثورة الإسلامية، ثمّ انفصلت عنه بعد احتلال العراق؟”.

العراق

واقعيّاً ينتمي أفراد وزارة الداخلية العراقية بكلّ أجهزتها إلى منظّمة بدر. وهو ما يعني أنّ ميليشيا قد سبق لأفرادها أن تمتّعوا بالمواطنة الإيرانية، وكانوا قد حاربوا في صفوف الجيش الإيراني في ثمانينيات القرن الماضي، هي التي تحكم العراق أمنيّاً. لذلك حلُّ الميليشيات إن حدث من خلال العبقرية الإيرانية، فسيعني إذابتها في جسد الدولة العراقية. وهذا معناه أنّها ستدير وزارات وفي مقدَّمها وزارة الدفاع.

لا أعتقد أنّ هناك جرعة سمّ أسوأ من ذلك.

عبر العشرين سنة الماضية، تُركت إيران ترتّب أوضاعها في العراق، نفوذاً وهيمنةً وتمدّداً ومصادرةً ووصاية، حتّى وصلت إلى مرحلة تطبيع مشروعها

الإرادة العراقيّة هي الحلّ

لا نحتاج إلى تكهّنات العرّافين وأخبار المنجّمين في ما يتعلّق بمصير العراق بعد المفاوضات المباشرة التي يعقدها الطرفان الأميركي والإيراني في مسقط. حتّى لو كان ذلك المصير مدرجاً في جدول الأعمال، فإنّ إيران لن تشعر بالانزعاج. صحيح أنّ الأجهزة الأميركية تعرف كلّ شيء، ما هو معلن وما هو مخفيّ، غير أنّها قد لا تكون راغبة في ضرب المعادلة السياسية القائمة في العراق، وهي معادلة ترجّح الكفّة الإيرانية، بل إنّ مَن يعملون في سياق تلك المعادلة لا يرون أيّة أهميّة لمصلحة العراق والعراقيين.

إقرأ أيضاً: بغداد المنفيّة في أحلام عشّاقها

لقد فقد العراق خصوصيّته. فقدَ انتماءه إلى شعبه قبل أن يفقد انتماءه إلى محيطه العربي. لن تفكّر الولايات المتحدة في إنقاذه وهي التي عملت على تدميره قبل أن تسلّمه إلى إيران. ولو كانت غير ذلك لما احتاجت إلى التفاوض مع إيران التي ستخرج من القفص الذي سيظلّ العراق حبيساً فيه. إنّ الأمل الوحيد لخروج العراق من القفص الإيراني مرتبط بإرادة شعبه، وهي إرادة تمّ ذبحها وتمييعها واستلابها ومصادرتها في ظلّ صمت أميركي مطبق.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

عرائض احتجاج في الجيش الإسرائيلي… تهدد الحكومة

بات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتعامل مع معارضيه انطلاقاً من “فوبيا” تتملّكه من خسارة منصبه وتفكيك ائتلافه الحكومي، وتحوّلت تهمة “إسقاط الحكومة” إلى لازمة…

ثلاثة مسارات كبرى تقرّر مستقبل الشّرق الأوسط

ثلاثة مسارات كبرى، وطويلة الأمد، برزت في الأشهر الثمانية عشر الماضية، منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تكتسب ديناميّاتها وآثارها زخماً متنامياً: تطبيع العلاقات مع…

كيف تسعى إسرائيل لإفشال الاتّفاق النّوويّ؟

بينما تُعقد جولات تفاوضية مباشرة وغير مباشرة بين الولايات المتّحدة وإيران في سلطنة عُمان، يُنظر إلى هذه المحادثات باعتبارها لحظة حاسمة قد تُعيد تشكيل مستقبل…

السودان كسرت الجرّة مع الإمارات

أن يرفع السودان دعوى لدى محكمة العدل الدولية ضدّ الإمارات العربية المتحدة بتهمة التواطؤ على ارتكاب إبادة جماعية خلال الحرب الأهليّة الدائرة على أرضه، ومعنى…