13 نيسان 1975: ذاكرتنا ليست للنّسيان

“أشلاؤنا أسماؤنا… لا… لا مفرُّ

سقط القناع عن القناع عن القناع

لا إخوة لك يا أخي لا أصدقاء 

لا القلاع 

لا الماء عندك ولا الدواء، ولا السماء ولا الدماء ولا الشراع”.

محمود درويش (من كتاب “ذاكرة للنسيان”)

 

كان الثالث عشر من نيسان عام 1975 يوم أحد، أي نهار عطلة. كان من المُفترض أن يكون اليوم مثل أيّ يوم من أيّام بداية فصل الربيع. كنّا جميعنا غافلين عن الآتي. كانت أسراب السنونو تجتاح السماء الزرقاء، ورائحة زهر الليمون تتسلّل بهدوء لتلطّف روائح المجارير التي فجّرها انسداد “غير متوقّع” في مفصل ما من شبكة الصرف الصحّي المتهالكة. حسبما أذكر، هطلت زخّات من المطر من بضع غيوم عابرة أتت لتودّع الموسم أو تغسل بعض الغبار من على زهر الليمون في شهر تعبق فيه طرابلس برائحة من عالم الخيال. وعلى الرغم من أنّ مؤشّرات التوتّر كانت عالية إلى مستوى الخطر الداهم، لم يتوقّع أحد كارثة بهذا الحجم.

عند الساعة الواحدة من بعد الظهر أصبح النبأ على كلّ لسان: “مجزرة بحقّ مجموعة من الفلسطينيّين الأبرياء عند مرورهم في بوسطة عبر منطقة عين الرمّانة”.

خرجت الأمور عن قدرة الساسة التقليديين على معالجة الأمور على الطريقة اللبنانية المبنيّة على التسويات. فشل رئيس الحكومة رشيد الصلح مساء ذلك اليوم في إقناع بيار الجميّل بتسليم مرتكبي المجزرة، بعدما قال إنّ “الجمهور” ردّ بشكل عفوي على محاولة اغتيال تعرّض لها هو نفسه عند خروجه من الكنيسة في قلب عين الرمّانة حيث قُتل مرافقه.

في الثامن عشر من نيسان، ابتدأ عهد صيد البشر. شُلّت الحركة في الشوارع، وسيطر الذعر على المارّة بعد سقوط العشرات من عابري السبيل ضحايا لرصاص مجهول الهويّة

انطلقت أعمال عنف متفرّقة حول مخيّمي “تل الزعتر” و”جسر الباشا”، وحصلت اشتباكات بين الشيّاح وعين الرمّانة. قُدّر عدد القتلى ببضع مئات في الأيّام القليلة التي تلت المجزرة.

اجتمع أركان الحركة الوطنية اللبنانية. أدانوا “العمل الشنيع” واتّهموا حزب الكتائب بارتكاب الجريمة “عن سابق إصرار وتصميم خدمة للمشاريع الصهيونية”، وقرّروا اتّخاذ الإجراءات اللازمة لعزل هذا الحزب وطنيّاً وعربيّاً، وطالبوا بتسليم المرتكبين.

صيد البشر

استُعيد من جديد حديث أركان الحركة الوطنية عن برنامج إصلاحيّ لحلّ سياسي واجتماعي واقتصادي للأزمة اللبنانية، من خلال تقويض نظام الامتيازات، إضافة إلى إلغاء الطائفية السياسية وإجراء تغييرات جذرية على البنية الاقتصادية اللبنانية، والدفع إلى مزيد من التقديمات الاجتماعية للطبقات الفقيرة والعمّال، بالإضافة إلى الدعم المفتوح للثورة الفلسطينية.

في طرابلس، بدأ مهرجان حرق الدواليب وقطع الطرقات. في اليوم التالي للمجزرة، أُقفلت المصالح والمدارس وانطلقت تظاهرة كبرى باتّجاه ساحة التلّ. عندما وصلت تظاهرة طرابلس إلى محيط كنيسة مدرسة الطليان، سُمع إطلاق رصاص مجهول المصدر! ساد الهرج والمرج، وتفرّق المشاركون مذعورين، وامتلأت الطريق بالأحذية التي فلتت من أقدام أصحابها عند فرارهم على عجل. عاد بعضهم للبحث عنها لاحقاً، فيما خجل آخرون وتركوها هناك “خوفاً من البهدلة”.

في الخامس عشر من نيسان، ألقى رئيس الحكومة رشيد الصلح كلمة في مجلس النواب اتّهم فيها حزب الكتائب بالمجزرة، وأشار فيها إلى أنّ تظاهرات التأييد للجيش اللبناني التي انطلقت في المناطق ذات الأكثرية المسيحية، بعد إصابة معروف سعد، أدّت إلى إظهار الجيش كأنّه محسوب على فئة دون أخرى، وهذا ما وضع مصداقيّته في موقع الشبهة من قبل فئة كبيرة من اللبنانيين. ثمّ قدّم استقالته احتجاجاً، وتوجّه نحو الباب للخروج من المجلس، فجرت مشادّة عندما لحق به نائب حزب الكتائب أمين الجميّل وأمسكه من ذراعه محاولاً إعادته إلى الجلسة ليردّ عليه.

خرجت الأمور عن قدرة الساسة التقليديين على معالجة الأمور على الطريقة اللبنانية المبنيّة على التسويات

في الثامن عشر من نيسان، ابتدأ عهد صيد البشر. شُلّت الحركة في الشوارع، وسيطر الذعر على المارّة بعد سقوط العشرات من عابري السبيل ضحايا لرصاص مجهول الهويّة.

نيسان

“شريف الأخوي”، في إذاعة لبنان، أصبح المرشد الوحيد للمواطنين لكي يتجنّبوا رصاص القنّاصة الذين انتشروا في أوكار في الأبنية المشرفة على المناطق “المعادية”. وعلى الرغم من كلّ إرشاداته ونداءاته “لإحياء ضمائر القنّاصة” لكي يتوقّفوا عن قتل الأبرياء، فبينهم قد يكون أخاً وأباً وربّما يكون قريباً للقنّاص نفسه، كانت لائحة ضحاياهم تكبر بسرعة هائلة. كثيراً ما سقط مسيحيون برصاص انطلق من مناطق مسيحية، وسقط مسلمون برصاص من مناطق إسلامية.

خطفٌ على الهويّة

في بعض الأحيان، كان يتكوّم الأب فوق ابنه الجريح وهو يحاول سحبه من مرمى القنّاص، وفي أحيان أخرى كانت الضحايا تنزف وتستغيث، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها، بعدما تبيّن أنّ بعض القنّاصة المحترفين كانوا يتقصّدون تحويل الطريدة الأولى إلى فخّ بإصابتها إصابة غير قاتلة، ليستدرجوا بها أصحاب النخوة من المسعفين. لحسن الحظّ، لم تكن مناظير القنص الليلية متوافرة في تلك الأيّام، فكانت الجثث تُسحب تحت جنح الظلام، وأحياناً كان يُنقذ بعض الجرحى على آخر نفَس.

في العشرين من نيسان من العام نفسه، وقّع الفرقاء على “اتّفاق نهائي” لوقف دوّامة العنف، والذهاب إلى تسليم المطلوبين، وتوافقوا على الحوار لإيجاد حلول سياسية للمسائل العالقة. في الثالث والعشرين من الشهر عينه، عيّن رئيس الجمهورية حكومة من العسكريّين برئاسة العميد نورالدين الرفاعي، في الوقت الذي بدأت فيه الاشتباكات المتفرّقة تمتدّ إلى وسط العاصمة التجاري، فيما نشط الخطف المتبادل تحت عنوان “الخطف على الهويّة”. استمرّ الوضع على توتّره إلى أن أدّت وساطة سوريّة إلى وقف إطلاق النار، وتعيين رشيد كرامي رئيساً للوزراء في الثامن والعشرين من نيسان، بعد فشل الحكومة العسكرية.

عشيّة مجزرة البوسطة، كانت الشعوب في لبنان مقسّمة على ثلاث فئات بشكل عامّ

بقي الوضع حذراً في طرابلس، وكانت علينا العودة إلى المدرسة، على الرغم من المحاذير المتعلّقة بانتقالنا منها وإليها بالبوسطة في مناطق متداخلة طائفيّاً. معظم الناس في مدينتنا بدوا متهيّبين من الانسياق إلى دوّامة العنف، فالمصالح كانت متداخلة بين الأفراد والمجموعات. كانت طرابلس عشيّة الحرب عبارة عن العاصمة الاقتصادية والثقافية لشمالي لبنان، وحتى لجزء من سورية. كان انطلاق دوّامة العنف يعني الوقوع في المجهول، وخسارة ما لا يمكن حسبانه من أرزاق. على الرغم من كلّ ذلك، بدا أنّ الانزلاق إلى المجهول كالقضاء والقدر. مشينا نحوه جميعنا دون مقاومة، مستسلمين لحتميّته، واتّهمنا من احتجّ أو مانع بشتّى أنواع الصفات غير الحميدة، من “متخاذل إلى جبان إلى عميل أو رأسمالي خائف على مصالحه…”.

عشيّة مجزرة البوسطة، كانت الشعوب في لبنان مقسّمة على ثلاث فئات بشكل عامّ:

– الفئة الأولى اعتبرت لبنان ملكيّةً خاصّة مُفصّلة على قياسها، وأنّ الباقين مُلحقون لا حقوق لهم. عندما طالب هؤلاء المواطنون بحقوقهم وبوجوب أن يتساووا على أساس المواطنة، فضّلت الفئة الأولى أن تدمّر البلد على نفسها وعلى غيرها على أن تتشارك مع الآخرين. أذكر مقولة درجت يومئذٍ على لسان القادة المسيحيين تقول: “نحنا يا بدنا لبنان متل ما بدنا، يا إمّا عمره ما يكون”.

– الفئة الثانية لم تقتنع أصلاً بحقّ لبنان بالوجود وطناً مستقلّاً وكياناً محدّد المعالم. كانت تصرّ على أنّه يجب أن يكون فقط جزءاً من محيطه، فتعاملت معه بجحود كامل على أساس أنّه حالة شاذّة ومؤقّتة، ونتاج مؤامرة خبيثة اسمها سايكس – بيكو. وهكذا شرّعت هذه الفئة الباب للتدخّلات الدولية والإقليمية، واستدرجت مشاكل المحيط إلى الداخل، تحت شعار “وحدة المصير والمسار”، فشاركت في حفلة الدمار دون هدى.

في الخامس عشر من نيسان، ألقى رئيس الحكومة رشيد الصلح كلمة في مجلس النواب اتّهم فيها حزب الكتائب بالمجزرة

– الفئة الثالثة كانت تضمّ فوضويين وعقائديين من يسار ويمين وثوريّين ومهمّشين أعلنوا فشل التجربة اللبنانية فقرّروا تدميرها لإعادة بنائها كلٌّ على قياسه دون أن يتوافقوا على شكل البناء الجديد.

تجنّبت ركوب الحافلة إلى المدرسة، وصرت أركب سيّارة أجرة ذهاباً، متجنّباً المرور بشارع الأرز، حيث يكثر المسلّحون. كنت قد سمعت ببعض الاعتداءات على سائقين من طرابلس وعلى مسلمين من قبل مسلّحين مسيحيين، وكنت أخشى وشاية من أحد أبناء صفّي بكوني يساريّاً.

لا شيء سوى الصّلاة

كان الاحتقان قد تسلّل بشكل واسع إلى المدرسة، فصار يتجمّع بعض الشبّان حول المسؤول الكتائبيّ في المدرسة أثناء الفسحات، يهمهمون وينظرون إلى بعض الطرابلسيين بنوع من العدائية، وكنت قد تأكّدت من وجود بعض الآلات الحادّة في حوزة بعض منهم. أمّا أنا، في محاولة لاستعراض القوّة وإيهام “الأعداء عملاء إسرائيل” بطول باعي، فقد كنت أجاهر دون خوف باتّهامي للكتائب، وأتحدّى من تُسوّل له نفسه الاعتداء على أيّ واحد من “جماعتنا!”.

بدأت الشعارات المتضاربة تظهر في المدرسة على أبواب المراحيض وعلى الحيطان، وكلّها كانت من النوع الركيك والسفيه. استدعاني الأب بطرس، مدير المدرسة، وكان ودّياً معي بشكل مريب، على الرغم من القلق الواضح في عينيه، وقال لي: “أنا أعرف بكلّ ما تقوم به من تحريض. في كلّ الأحوال، لقد نشرت جماعة الكتائب شعاراتها العدائية في كلّ زاوية من المدرسة، وهي أيضاً مجموعة من المجانين… اليوم أتكلّم معك ابناً ربّيته منذ أتيت إلينا طفلاً قبل عشر سنوات. إنّ ما تفعلونه سيتسبّب بدمار البلد وبضياع مستقبلكم جميعاً. قد لا نتمكّن نحن من فعل شيء غير الصلاة لتحمي العذراء الناس من الشرّ، لكن أتمنّى عليك وعلى رفاقك أن تتجنّبوا الجدل مع الطرف الآخر، والتوقّف عن كتابة الشعارات”.

كان الثالث عشر من نيسان عام 1975 يوم أحد، أي نهار عطلة. كان من المُفترض أن يكون اليوم مثل أيّ يوم من أيّام بداية فصل الربيع

بعد أيّام قليلة، أتى المدير إلى الصفّ، وطلب منّي اللحاق به بسرعة، ففعلت. عندما وصلت إلى مكاتب الإدارة المشرفة على طرابلس، التي كانت واجهاتها من الزجاج الداكن، طلب منّي أن أنظر بحذر إلى مدخل البناء. رأيت ثلاث سيّارات بيض من نوع “رينو 12″، وحولها بضعة شبّان بلباس مُوحَّد.

“لقد اتّصل بي أحد التلاميذ السابقين، وهو مسؤول في حزب الكتائب، وأخبرني بأنّ الشباب في الأسفل أتوا من أجلك ولا أعلم لماذا! تفادياً للمشكل، اخرج سريعاً من مخرج خاصّ لا يعلم به أحد من التلاميذ يفضي إلى الزيتون، ولا تعد إلّا بعدما أخبرك بأنّ الوضع سليم”.

إقرأ أيضاً: متى تتوقّف حرب 13 نيسان؟

لم أناقش، وخرجت من المبنى من باب صغير جانبيّ مباشرة إلى بساتين الزيتون وعدوت باتّجاه طرابلس.

حتّى لا ننسى…

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

عرائض احتجاج في الجيش الإسرائيلي… تهدد الحكومة

بات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتعامل مع معارضيه انطلاقاً من “فوبيا” تتملّكه من خسارة منصبه وتفكيك ائتلافه الحكومي، وتحوّلت تهمة “إسقاط الحكومة” إلى لازمة…

ثلاثة مسارات كبرى تقرّر مستقبل الشّرق الأوسط

ثلاثة مسارات كبرى، وطويلة الأمد، برزت في الأشهر الثمانية عشر الماضية، منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تكتسب ديناميّاتها وآثارها زخماً متنامياً: تطبيع العلاقات مع…

كيف تسعى إسرائيل لإفشال الاتّفاق النّوويّ؟

بينما تُعقد جولات تفاوضية مباشرة وغير مباشرة بين الولايات المتّحدة وإيران في سلطنة عُمان، يُنظر إلى هذه المحادثات باعتبارها لحظة حاسمة قد تُعيد تشكيل مستقبل…

السودان كسرت الجرّة مع الإمارات

أن يرفع السودان دعوى لدى محكمة العدل الدولية ضدّ الإمارات العربية المتحدة بتهمة التواطؤ على ارتكاب إبادة جماعية خلال الحرب الأهليّة الدائرة على أرضه، ومعنى…