تعديل السّرّيّة المصرفيّة: خطوة ضروريّة لا تكفي وحدها

مدة القراءة 7 د

بعد أكثر من ستّة عقود على صدور قانون السرّية المصرفية في لبنان عام 1956، أقرّ مجلس النوّاب اللبناني في تشرين الأوّل 2022 تعديلاً طال انتظاره، ينقل هذا القانون من كونه أداةً لحماية الثروة المشروعة إلى أداة محتملة لكشف الفساد والمساءلة.

جاء هذا التعديل استجابة لحالة الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي يمرّ به لبنان، ولضغوط متزايدة من المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، الذي طالب بإصلاحات جذريّة تعزّز الشفافية والمحاسبة.

 

 

يرفع التعديل الجديد على قانون السرّية المصرفية عام 2022 جزئيّاً الغطاء الذي كانت توفّره السرّية المصرفية للمسؤولين المتورّطين في الإثراء غير المشروع أو التهرّب الضريبي أو تبييض الأموال، ويوسّع صلاحيّة الجهات الرقابية والقضائية والإدارية في طلب كشف الحسابات المصرفية.

لا ينعزل القانون المعدّل عن الإطار التشريعي لمكافحة الجريمة الماليّة، بل يستند بوضوح إلى قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب الرقم 44 الصادر بتاريخ 24/11/2015، الذي يذكره صراحة في أكثر من موضع:

  • في المادّة السابعة، عند السماح للمصارف بالكشف عن معلومات للجهات المختصّة في إطار التحقيقات الماليّة.
  • وفي المادّة الثامنة، عند تحديد العقوبات على من يمتنع عن تقديم المعلومات المطلوبة.

ومن النقاط التي لا تقلّ أهمّية ما يتعلّق بالمفعول الرجعيّ لتطبيق التعديلات. جرت العادة أن يشمل رفع السرّية كلّ فترة وجود الحساب، لكنّ قانون 2022 لم يتضمّن نصّاً صريحاً عن المفعول الرجعي، فحدث جدل قانونيّ واسع. يفتح غياب النصّ الواضح الباب أمام المصارف والعملاء للطعن في كشف المعلومات السابقة لتاريخ صدور القانون. وقد دفع هذا الغموض إلى تقديم مشروع قانون جديد في آذار 2025 يتضمّن مفعولاً رجعيّاً يمتدّ عشر سنين إلى الوراء في محاولة لمعالجة هذا القصور. إلّا أنّ هذا التحديد الزمني للمفعول الرجعي قد يُضعف من فعّالية القانون في ملاحقة الجرائم الماليّة الأقدم، ولذلك من الأفضل أن يكون المفعول الرجعي مفتوحاً وغير مقيّد بعدد سنوات، خاصة إذا كان الهدف هو محاربة الفساد والجريمة المالية دون انتقائية أو قيود زمنية مصطنعة. وجود مفعول رجعي صريح في القانون ضروريّ لأنّه:

  • يمنع التذرّع بأنّ العمليات المشبوهة وقعت قبل التعديل.
  • يمكّن الجهات المختصّة من تتبّع الأموال المشبوهة من مصدرها الأوّل.
  • يعزّز التعاون مع المحاكم الدولية وطلبات التحقيق العابرة للحدود.
  • يطمئن الرأي العامّ اللبناني إلى أنّ المساءلة لا تبدأ من اليوم بل تعود إلى جذور الأزمة.

يرفع التعديل الجديد على قانون السرّية المصرفية عام 2022 جزئيّاً الغطاء الذي كانت توفّره السرّية المصرفية للمسؤولين المتورّطين في الإثراء غير المشروع

التّحدّي الأكبر

على الرغم من أهمّية التعديل، فعّاليّته مرهونة بثلاثة عناصر: أوّلاً، الإسراع بإصدار المراسيم التطبيقية التي توضح آليّات العمل وتضمن عدم التسويف. ثانياً، تعزيز استقلالية الجهات الرقابية ومنحها الإمكانات التقنية والبشرية اللازمة. ثالثاً، تفعيل التنسيق بين القضاء والإدارات الضريبية وهيئة مكافحة الفساد، بما يضمن التنفيذ الشفّاف وغير الانتقائيّ للقانون.

يبقى التحدّي الأكبر هو في الإرادة السياسية لتطبيق القانون فعليّاً، لا تركه حبيس الأدراج كغيره من النصوص “الجميلة” التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ. فالقانون بحدّ ذاته لا يكفي، بل المطلوب أن يشكّل بداية مسار جديد في الحوكمة الماليّة.

أهمّ النقاط في قانون تعديل السرّية المصرفية – تشرين الأول 2022 تعديل قانون سرّية المصارف الصادر عام 1956 بما يتيح كشف المعلومات المصرفية في حالات محدّدة، تعزيزاً للشفافيّة ومحاربة الفساد والتهرّب الضريبي وتبييض الأموال.

أهمّ التّعديلات:

  1. توسيع الجهات المخوّلة طلب كشف السرّية المصرفية:
  • القضاء المختصّ (بدعاوى الفساد، الإثراء غير المشروع، الجرائم المالية…).
  • هيئة التحقيق الخاصّة بموجب قانون تبييض الأموال.
  • الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
  • الإدارة الضريبية لأغراض التدقيق ومكافحة التهرّب.
  • مصرف لبنان، لجنة الرقابة، المؤسّسة الوطنية لضمان الودائع، بهدف إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
  1. إلغاء الحسابات المرقّمة والخزائن الحديدية غير المعروفة الملكيّة.
  2. فرض عقوبات صارمة على:
  • من يفشي المعلومات المحميّة.
  • من يمتنع عن تقديم المعلومات.
  • المصارف التي ترفض التعاون تُحال إلى الهيئة المصرفيّة العليا.
  1. تمكين الجهات الرقابية من الحصول على المعلومات دون الحاجة إلى تحديد العميل أو الحساب، مع حقّ الاعتراض أمام القضاء.
  2. نصّ صريح بعدم جواز استخدام السرّية المصرفية ذريعةً لعرقلة واجبات الجهات الرقابية.

تعديل القانون خطوة ضرورية، لكنّها تبقى ناقصة من دون خطّة تنفيذية حقيقية تترجم النصوص إلى إجراءات على الأرض

تحليل قانون 2022:

– نقاط القوة:

  1. إنهاء الحصانة المطلقة التي كانت توفّرها السرّية المصرفية.
  2. شمول القانون لمسؤولين حاليّين وسابقين وذويهم.
  3. وضوح في الجهات التي لها صلاحيّة طلب المعلومات.
  4. فتح باب الرقابة المؤسّسيّة والتنسيق بين مصرف لبنان، اللجنة الرقابية وهيئة مكافحة الفساد.

– نقاط الضّعف أو الإشكاليّات المحتملة:

  1. لا يزال يتطلّب صدور مراسيم تطبيقية (مثلاً لتحديد آليّة تبادل المعلومات).
  2. إمكان التباطؤ القضائي في بتّ اعتراضات المصارف أو العملاء.
  3. غياب آليّات رقابة مستقلّة للتأكّد من التطبيق العادل وغير الانتقائي.

مقارنة بين قانون السرّية المصرفية لعام 1956 وبين التعديلات على القانون عام 2022:

التزام سياسيّ وقضائيّ

القانون الجديد (2022) يُعدّ من الركائز الأساسية لأيّ استراتيجية لمكافحة الفساد في لبنان، وذلك للأسباب الآتية:

  • يزيل الحصانة التقليدية التي كانت تحجب تدقيق المصادر المشبوهة للأموال.
  • يمكّن الجهات الرقابية والضريبيّة من تتبّع الأموال وملاحقة التهرّب والتلاعب.
  • يسهّل التعاون مع الهيئات الدولية مثل صندوق النقد الدولي ومجموعة العمل المالي.
  • يوجّه رسالة واضحة بأنّ السرّية المصرفية لا تعني الإفلات من المحاسبة.

المطلوب التزام سياسي وقضائي وإداري بفتح النوافذ أمام العدالة والشفافيّة، ولو على نحو متأخّر

لدعم التنفيذ الفعليّ لتعديل قانون السرّية المصرفية، لا بدّ من تفعيل التعديل الأخير لقانون سرّية المصارف رقم 3/9/1956 وتعديلاته بموجب قانون 2022، وعلى الجهات المعنيّة إصدار المراسيم التطبيقية فوراً لتحديد:

  • آليّة تبادل المعلومات بين الجهات المخوّلة.
  • إجراءات الاعتراض أمام القضاء المستعجل.
  • معايير الطلبات العامّة التي لا تتطلّب تحديد اسم العميل.
  • تحديث آليّات الرقابة القضائية عبر إنشاء دائرة قضائية مختصّة ضمن قضاء العجلة للنظر في الاعتراضات على طلبات رفع السرّية.

تمكين هيئة التحقيق الخاصّة والإدارة الضريبية من:

– توفير برامج تقنيّة تربط قواعد البيانات المصرفية والضريبية.

– تدريب كوادر مختصّة على تحليل الحسابات المشبوهة.

إقرأ أيضاً: 4 قوانين إصلاحية: النيّة حسنة… ماذا عن التطبيق؟

إلزام المصارف بالتقارير الفصليّة:

– حول عدد الطلبات التي استجابت لها، ونوع الجهات الطالبة، ونتائج الطلب.

– تُرفع هذه التقارير إلى لجنة الرقابة على المصارف ومجلس النوّاب.

– إنشاء وحدة رقابة مستقلّة ضمن هيئة مكافحة الفساد تتابع حسن تطبيق القانون وتصدر تقارير سنوية للرأي العامّ.

تعديل القانون خطوة ضرورية، لكنّها تبقى ناقصة من دون خطّة تنفيذية حقيقية تترجم النصوص إلى إجراءات على الأرض. المطلوب التزام سياسي وقضائي وإداري بفتح النوافذ أمام العدالة والشفافيّة، ولو على نحو متأخّر.

 

* باحث لدى كلّية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB).

مواضيع ذات صلة

لبنان على الحافة… في مرمى نيران حرب ترامب التّجاريّة

مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عادت القومية الاقتصادية إلى الأداء الانتقامي. لم يعد هذا النهج شعاراً لحملة انتخابية أو موقفاً عابراً، بل…

المصارف بعد فرزها: للتعثّر أسباب كثيرة

يمكن للمودعين أن يستبشروا بإقرار مشروع قانون “إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها” في مجلس الوزراء السبت الماضي، في أكبر نقطة تحوّل في تعاطي الدولة مع…

“قانون المصارف”: تسوية تدفن الحقيقة والودائع!

أنهت حكومة نوّاف سلام مناقشة “مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، وهو مطلب إصلاحي أساسيّ، وأقرّته لترسله إلى البرلمان، حيث لا بدّ…

“حرب” ترامب: أميركا قويّة ودولار ضعيف

يكتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بيده نهاية نظامَين هيمنت بهما الولايات المتّحدة على الاقتصاد العالمي على مدى ثمانين عاماً: نظام التجارة العالمي، الذي أخذ شكله…