في خضمّ الأزمة المتعدّدة الأوجه التي يواجهها لبنان، من انهيار اقتصادي وماليّ إلى اختلالات عميقة في القطاعات الحيويّة، برزت الحاجة الملحّة إلى مراجعة العديد من القوانين ذات التأثير المباشر على حياة المواطنين واستقرار المؤسّسات وتعديلها. وقد شهدت الفترة الأخيرة إقرار أو تعديل مجموعة من القوانين المفصليّة، منها ما يتعلّق بالسرّيّة المصرفية، التعليم، والإيجارات غير السكنيّة.
على الرغم من اختلاف موضوعاتها، تندرج هذه القوانين جميعها ضمن إطار محاولة إعادة التوازن بين الحقوق والواجبات، وتصحيح تشوّهات تراكمت عبر عقود. إلّا أنّ تطبيقها، وسط الظروف الحالية، يثير أسئلة حقيقية عن الجدوى، العدالة والاستدامة، وهو ما يتطلّب قراءة دقيقة لكلّ قانون، وتقويماً موضوعيّاً لآثاره الإيجابية والسلبية.
صدر قانون السرّية المصرفية في لبنان عام 1956 بهدف جذب رؤوس الأموال الأجنبية والمحلّية، فساهم في تعزيز مكانة لبنان بجعله مركزاً ماليّاً إقليميّاً. غير أنّ هذا القانون، مع مرور الزمن، استُغلّ أحياناً لتسهيل ممارسات مثل التهرّب الضريبي وتبييض الأموال، فكان لا بدّ من تعديله لمواكبة المعايير الدولية للشفافية ومكافحة الفساد. وفي إطار الجهود الهادفة إلى مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في النظام المالي، أعدّت الحكومة اللبنانية مشروعاً لتعديل قانون السرّية المصرفية، وتتمحور أبرز بنوده حول:
- توسيع صلاحيّة رفع السرّية المصرفية ليشمل الجهات القضائية المختصّة، هيئة التحقيق الخاصّة، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والإدارة الضريبية.
- منح مصرف لبنان والهيئات الرقابية والمؤسّسة الوطنية لضمان الودائع صلاحيّات واسعة تتيح لهم أن يطلبوا من المصارف معلومات تخضع للسرّية المصرفية بهدف تعزيز فعّالية الرقابة على القطاع المصرفيّ.
- ينصّ التعديل على إمكان رفع السرّية المصرفية بأثر رجعيّ اعتباراً من تاريخ 28 تشرين الأوّل 2022، خاصة في ما يتعلّق بإجراءات إعادة هيكلة القطاع المصرفيّ.
في 27 آذار 2025، أعلن رئيس الحكومة نوّاف سلام موافقة مجلس الوزراء على مشروع القانون، مؤكّداً التزام الحكومة سياساتٍ ماليّة إصلاحيّة بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي.
صدر قانون السرّية المصرفية في لبنان عام 1956 بهدف جذب رؤوس الأموال الأجنبية والمحلّية، فساهم في تعزيز مكانة لبنان بجعله مركزاً ماليّاً إقليميّاً
على الرغم من أهمّية هذه التعديلات، يبقى التحدّي في آليّات التطبيق العمليّ، وضمان عدم إساءة استخدامها. فالمشكلة ليست فقط في القانون، بل في الفهم الصحيح للسرّية المهنية وآليّات حمايتها وضبط استخدامها. حتّى في ظلّ إلغاء كامل للسرّية المصرفية تبقى السرّية المهنية، المعتمدة في مهن عدّة كالصحافة والطبابة والمحاماة، حصانة كافية للمصرفيّ لعدم الإفصاح عن أيّ معلومات لأيّ جهة كانت إن لم يكن من أسباب موجبة لذلك، وبحيث تكون هذه الأسباب قانونية وموثّقة حتماً.
قانون تنظيم الهيئة التّعليميّة والموازنة المدرسيّة
في 14 كانون الأوّل 2023، أقرّ مجلس النواب تعديلات على بعض أحكام قانون تنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصّة، شملت زيادة مساهمة المدارس في صندوق التعويضات من 6% إلى 8%، وفرضت أن تكون هذه المساهمات بالعملة التي تُدفع بها الرواتب، فشرّعت فعليّاً دولرة الأقساط المدرسية.
الإيجابيّات:
- حماية الحقوق الماليّة للهيئة التعليمية.
- تحسين قدرة صندوق التعويضات على الوفاء بالتزاماته.
- تنظيم موازنات المدارس الخاصّة بطريقة أكثر شفافيّة.
أمّا في السلبيّات:
- تحميل الأهالي أعباء إضافية.
- خطر إقفال المدارس الصغيرة والمتعثّرة.
- ارتفاع معدّلات تسرّب التلاميذ إلى المدارس الرسمية المكتظّة.
يُظهر الواقع أنّ هذه التعديلات لا يمكن أن تُطبّق بشكل سليم من دون سياسة دعم شاملة تحمي التعليم بما هو مصلحة عامّة.
في 14 كانون الأوّل 2023، أقرّ مجلس النواب تعديلات على بعض أحكام قانون تنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصّة
القانون الرامي إلى إعطاء مساعدة ماليّة لصندوق التّعويضات
يهدف إلى تخصيص دعم ماليّ عاجل لصندوق تعويضات معلّمي المدارس الخاصّة، ليتمكّن من دفع المستحقّات والتعويضات.
على الرغم من الإيجابيّات الظاهرة، كدعم المعلمين والحدّ من الهجرة المهنيّة، إلّا أنّ هذا القانون:
- يُثقل كاهل خزينة الدولة.
- لا يُعالج جذور المشكلة البنيوية في تمويل الصندوق.
- يُكرّس الاعتماد على حلول مؤقّتة.
المطلوب هو إصلاح مستدام يضمن تمويلاً ثابتاً وهيكلاً شفّافاً للصندوق.
نُشر بتاريخ 3 نيسان 2025 تعديلٌ لقانون الإيجارات القديمة للأماكن غير السكنية. ينصّ على تحرير تدريجي لهذه العقود خلال 2 إلى 4 سنوات
تعديل قانون الإيجارات للأماكن غير السّكنيّة
نُشر بتاريخ 3 نيسان 2025 تعديلٌ لقانون الإيجارات القديمة للأماكن غير السكنية. ينصّ على تحرير تدريجي لهذه العقود خلال 2 إلى 4 سنوات للوصول إلى بدل يعكس الواقع الاقتصادي الحقيقي.
في الإيجابيّات:
- تصحيح الخلل التاريخي في العلاقة التعاقدية بين المالكين والمستأجرين.
- تحفيز الاستثمار في العقارات التجارية.
- زيادة إيرادات الدولة من خلال الرسوم وغيرها.
أمّا في السلبيّات:
- زيادة التكاليف التشغيلية للمؤسّسات الصغيرة.
- خطر الإقفال أو تقليص النشاط.
- ارتفاع التضخّم وأسعار السلع والخدمات.
من دون إجراءات مرافقة، كالإعفاءات أو دعم المؤسّسات الصغيرة، قد يؤدّي هذا التعديل إلى نتائج عكسية في المدى القصير.
إقرأ أيضاً: بنك “الجسر”… قد يُنقذ الودائع
نحو خطوات عمليّة عاجلة
إنّ معالجة الأزمات في لبنان لا يمكن أن تتمّ من خلال قوانين معزولة تُقرّ على عجل، بل من خلال رؤية متكاملة توازن بين الإصلاح والعدالة الاجتماعية، وتربط بين القوانين والسياسات العامّة والقدرة التنفيذية للدولة.
لذلك المطلوب اليوم:
- الإسراع في وضع خطط تنفيذية تراعي الواقع.
- حماية الفئات الضعيفة، وقد تكون المستضعفة، من الآثار السلبية.
- تعزيز الشفافية وتفعيل الرقابة المستقلّة.
- الخروج من منطق “ردّ الفعل” إلى استراتيجية إصلاح شاملة لأنّ لبنان لا يملك ترف الوقت، ولذا يجب أن تكون هذه القوانين منطلقاً لتغيير حقيقي لا أوراقاً رسمية جديدة وحسب.
* باحث في كليّة سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB).