أميركا – ترامب والعالم: انعزاليّة جديدة

انتخاب الرئيس دونالد ترامب لولاية ثانية لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة عمل دؤوب وهادف طوال أربع سنوات. تمكّن ترامب من الاستفادة من حال التراجع في عهد سلفه، لا سيما في الشأن الاقتصادي، ومن البلبلة التي سبقت الانتخابات في أوساط الحزب الديمقراطي، فنال أكثرية عدديّة لم تكن متاحة سابقاً.

تعكس عودة ترامب تحوّلاً في الولايات المتّحدة باتّجاه الخطّ المحافظ الذي أفرز “عصبيّة” جديدة غير مألوفة في الديمقراطيّات المعاصرة، والذي ساهم ترامب في تظهيرها وتماسكها بالقول والفعل معاً، وإن على حساب القوانين والأعراف. المدماك الأوّل لهذه “العصبيّة” وضعه رئيس مجلس النوّاب الأسبق نيوتن غينغريتش Newton Gingrich الذي استعاد نفوذ الحزب الجمهوري في السياسة الأميركية بقوّة وحزم. ثمّ جاءت قبل نحو خمس سنوات هجمة الكونغرس الشهيرة ، غير المسبوقة في أميركا والدول الغربية الديمقراطية، لتجعل (من) ترامب زعيماً بالمفهوم “الشرقي”. والسؤال هنا: من غيّر من.. ترامب غيّر أميركا أم العكس أم كلاهما غيّر الآخر؟

 

 

أعطى انتقال ترامب من موقع الرئاسة إلى موقع الزعامة، بنظر مؤيّديه، حاكم البيت الابيض زخماً (momentum) غير معهود. وهذا بالذات ما فتح الباب أمام القرارات المرتجلة، خصوصاً في السياسة الخارجية التي تتولّاها الرئاسة بشكل خاصّ في نظام الحكم الأميركي. الواضح أنّ الرئيس ترامب يقود البلاد باتّجاه انعزالية جديدة في السياسة الخارجية، لها جذورها في الوسط السياسي وحضورها الشعبي منذ زمن بعيد.

انخرط الاتحاد الأوروبي في حرب أوكرانيا بسلاح أميركا وعبر الحلف الأطلسي، فصارت الحرب على أرض أوروبا والقرار بيد أميركا

انعزاليّة ما قبل الحرب العالميّة

تخلّت أميركا عن الانعزالية التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، وباتت العودة إلى الوراء صعبة بعد حرب كوريا، وسار الكونغرس بخطى ثابتة باتّجاه تعزيز دور الولايات المتّحدة المحوري في الحرب الباردة بمواجهة الاتّحاد السوفيتي. حاول الرئيس الأميركي وودرو ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى الدفع باتّجاه الانخراط في السياسة الدولية ولم ينجح. ظلّت أميركا خارج عصبة الأمم وعادت إلى موقع ما قبل الحرب بدعم من الكونغرس الذي عارض طروحات ويلسون في مؤتمر السلام في باريس بعد الحرب الكونية.

ترامب اليوم منسجم مع نفسه بعد أكثر من ثلاثة عقود على نهاية الحرب الباردة. وبمعزل عن المبادىء ونظام القيم الذي ساهمت الولايات المتحدة بإرسائه في السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، مصلحة “أميركا أوّلاً”، بمفهوم ترامب، تقتضي إخراج أميركا من الالتزامات الدولية المكلفة، وإن كان ذلك صعب المنال نظراً إلى النزاعات الدولية القائمة قبل وصوله إلى السلطة.

يبقى أنّ الولايات المتحدة دولة عظمى في النظام العالمي الراهن، لا سيما بمواجهة الصين وسواها، وفي العلاقات مع أوروبا والحلفاء في العالم. والسؤال هنا: هل عزل أميركا عن العالم يجعل اقتصادها يستعيد عافيته ويتعزّز دوره التنافسي في ظلّ عولمة تختلف عمّا كانت عليه في عقود مضت؟

قد ينجح ترامب في وضع حدّ للنزاع بين أوكرانيا وروسيا، علماً أنّه كان بالإمكان تجنّب هذه الحرب، لا سيما بعد الحرب الباردة وتراجع دور روسيا ونفوذها. أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا بمنزلة كوبا زمن الحرب الباردة وأزمة الصواريخ مطلع الستّينيات التي كادت أن تُدخل العالم في حرب عالمية جديدة.

تخلّت أميركا عن الانعزالية التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، وباتت العودة إلى الوراء صعبة بعد حرب كوريا

الحرب في أوروبا والقرار في أميركا

انخرط الاتحاد الأوروبي في حرب أوكرانيا بسلاح أميركا وعبر الحلف الأطلسي، فصارت الحرب على أرض أوروبا والقرار بيد أميركا. لا يريد ترامب الحرب ولا حتى الحلف الأطلسي، الذي توسّع دوره وازدادت إمكاناته العسكرية بعد الحرب الباردة، على أن تقوم دول الاتّحاد الأوروبي، وتحديداً فرنسا وألمانيا، ببناء ترسانتها العسكرية بقدراتها الذاتية. وفي الوقت عينه لا يتمّ التعامل مع روسيا المطوّقة اكتراثاً برئيسها بل لأنّ الأخير بحاجة إلى دعم واشنطن. وإلى ذلك، توجد في أوكرانيا موادّ أوّلية بالغة الأهميّة يريد ترامب استغلالها، فتأتي عناصر الصفقة متكاملة مادّياً ومعنوياً.

لكن ما عدا ذلك لا إمكان للرئيس الأميركي أن يسير بمقاربات مشابهة، إن مع كوريا الشمالية النووية بقيادة الحاكم المطلق، وريث الجيل الثالث باسم الشيوعية، أو مع الصين، الدولة العظمى اقتصاديّاً وفي مجال التكنولوجيا المتطوّرة التي لا يمكن خنقها بالأدوات العسكرية والتي تملك الصين ما يوازيها من ترسانة نووية وتقليدية.

بالتوازي، تنشب مع المكسيك ودول الجوار في أميركا الجنوبية أزمةٌ لا يعالجها حائط ولا إجراءات مشدّدة قد تكون ظرفيّة. لكن عندما تصبح كندا في خانة الخصم المؤذي فهذه ليست سابقة فحسب، بل معضلة لأميركا بقدر ما هي لكندا. هكذا ينتقل ترامب من صدام إلى آخر بلا تردّد أو تفسير مقنع، كما وصف جون بولتون في كتابه الأخير أداء الرئيس عندما تولّى إدارة الأمن القومي في ولاية ترامب الأولى، مع أنّه لا يقلّ عن ترامب تطرّفاً وتأييداً لاستعمال القوّة، لكن لغايات مبرّرة.

أمّا في الشرق الأوسط فحدّث ولا حرج: هنا تتوقّف الدوافع الاستراتيجية ويتعطّل المنطق ليحلّ مكانهما تهوّر بلا حدود وأوهام من نسج الخيال. فكيف إذاً ستكون الحال عندما يتلازم ذلك مع طموحات إسرائيل ومشروعها التوسّعي منذ انطلاق الحركة الصهيونية؟

غاية إسرائيل معروفة، وقد بلغت الآن أقصى التطرّف والعنصرية مع بنيامين نتنياهو وأعوانه الذين يعتبرون أنّ الفلسطينيين يحتلّون أرض إسرائيل وليس العكس

غاية إسرائيل معروفة، وقد بلغت الآن أقصى التطرّف والعنصرية مع بنيامين نتنياهو وأعوانه الذين يعتبرون أنّ الفلسطينيين يحتلّون أرض إسرائيل وليس العكس، ويرفضون حلّ الدولتين حتّى لو نال اعتراف العالم أجمع. الواقع أنّ مصدر القوّة لا يكمن في سياسة المفاجأة غير المنتظرة والنهج العقابيّ المفرط، بل في الفعل العسكري، الذي لا يسعى إليه ترامب.

السّعوديّة أكثر إرادةً وحزماً

إلّا أنّ السؤال الملحّ يتمحور حول المردود الفعليّ الذي ستناله أميركا – ترامب من تهجير جماعي ونهائي لفلسطينيّي غزّة، نصفهم مهجّرون أصلاً من أرضهم في 1948، علاوة على التوسّع الاستيطاني في الضفّة وبناء المنتجعات السياحية في غزّة بتمويل مجهول المصدر، والتطبيع مع السعودية وتقويض الاستقرار في مصر والأردن حيث الوطن البديل للفلسطينيين بحسب نتنياهو وسواه من قادة إسرائيل.

كلّ ذلك على الرغم من أنّ بين كلّ من مصر والأردن وإسرائيل معاهدات سلام صمدت خلال حرب غزة، ومع مصر خصوصاً زمن حكم الإخوان المسلمين. فكيف يمكن التصدّي لإيران بالضغط على السعودية لحملها على التطبيع، وعلى مصر والأردن للقبول بالتدمير الذاتي؟ السعودية اليوم أكثر حزماً وإرادة. وقد تصالحت مع إيران وانفتحت على الصين وليست بحاجة إلى المال الأميركي، بل العكس هو الصحيح. وتصالحت مصر مع تركيا، وبات استقرار الأردن اليوم أكثر حاجة لأميركا والمنطقة بعد التحوّلات الأخيرة في سوريا.

إقرأ أيضاً: ترامب يهدي الصّين “يوم التّحرير”

الواضح أنّ الاتّفاقات الإبراهيمية هي البديل عن حلّ الدولتين. لكن إذا كانت تحوّلات حرب غزة خارج حسابات نتنياهو لأسباب معروفة، فما هي حسابات ترامب؟ ففي حين أنّ إسرائيل ليس لديها ما تخسره ما دام الدعم الأميركي بلا حدود، فهل خسارة الحلفاء العرب لمصلحة أميركا؟ وهل توجيه ضربات عسكرية إلى إيران ستعيد التوازنات المجدية في المنطقة؟ والأهمّ، هل التطبيع الإبراهيمي سيقضي على الإرهاب؟ المفارقة أنّ الاستخفاف بالحلفاء أنتج موقفاً عربيّاً جامعاً قبل القمّة العربية الأخيرة في القاهرة وبعدها.

وحّد جمال عبدالناصر العرب بمواجهة إسرائيل، بينما ترامب يسعى إلى توحيد العرب بوجه الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة من أجل سلام مفقود. لكن هل هذا يجعل “America great again”؟

* أستاذ جامعي وسفير سابق

مواضيع ذات صلة

هذا ما يُقلق نوم خامنئي

حين وقف المرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، في خطبة عيد الفطر، نهاية آذار  2025 ليحذّر من خطر “الفتنة” في الداخل، وليقلّل من احتمالات…

“أميركا أوّلاً”… حتّى مع إسرائيل؟

لطالما وُصفت العلاقة السياسية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّها “شهر عسل” تقوم على الرمزيّة والإعجاب المتبادل وتطابق المصالح، لا…

تركيا وإيران: مواجهة جديدة في آسيا الوسطى؟

في عملية عسكرية مختلفة عمّا قامت به في الأشهر الماضية، شنّت القوّات الجوّية الإسرائيلية سلسلة غارات على أهداف عسكرية في دمشق وحماة وحمص ودمّرت  مطار…

دمشق لنا أيضاً… إلى يوم القيامة

يحقّ لنا أن نفرح باستعادة دمشق. نحن الذين أكل الوجع من أكبادنا حتّى شبع. وقد كنّا نردّد على رؤوس الأشهاد: نحن في الشرق والفصحى بنو…