يحقّ لنا أن نفرح باستعادة دمشق. نحن الذين أكل الوجع من أكبادنا حتّى شبع. وقد كنّا نردّد على رؤوس الأشهاد: نحن في الشرق والفصحى بنو رحمٍ، ونحن في الجرح والآلام إخوانُ.
يقف الرجل منّا على قلبه لا على قدميه، وهو يستمع إلى الوزير الفصيح في الحكومة الوليدة. يقول: دمشق لنا إلى يوم القيامة. ثمّ يستدرك. دمشق لنا، تعني أنّ سوريا لنا، لأنّها استعاضة بالبعض عن الكلّ. وحين نقول لنا، فنحن نعني الجميع، عرقاً وديناً ولوناً ومبتدأً ومنتهى.
امتدّ التصفيق العاصف من قصر المهاجرين إلى مسجد بني أميّة الكبير، ومنهما إلى عواصم وحواضر العرب. وقعت القصيدة في نفوس أهلها، ونحن بعضٌ منهم، وقْع الماء البارد على قلوب العطاشى. لا شيء يوازي استعادة الشام. لا شيء على الإطلاق. بعدما سرقها السفّاح من مخدعها. ثمّ راح يسحلها ويسحلنا معها نحو جحيم بلا قرار.
يحقّ لنا أن نفرح باستعادة دمشق. نحن الذين أكل الوجع من أكبادنا حتّى شبع.
لم يتركوا بيتاً من بيوتنا من دون مناحة. حكموا البلاد على رؤوس الرماح. ثمّ قالوا إنّ سوريا لهم إلى الأبد. ولبنان الصغير هذا، شقيقٌ وتوأمٌ وامتدادٌ طبيعيّ في النفوذ وفي المصير. سيّرونا معاً فوق بركة من الدم. وفوق جبل من الجثث. وفوق تاريخ طويل من القهر والعذابات والجراح التي لا تندمل. حتّى صرنا شركاء نتقاسم الوجع بالتمام والكمال. وصار يحقّ أن نقول: دمشق لنا أيضاً إلى يوم القيامة.
دمشق هنا تعني بيروت، لأنّها استعاضة بالبعض عن الكلّ. وبيروت هي شلّال الدم المُسال على جبينها. من حسن خالد إلى رفيق الحريري. ومن كمال جنبلاط إلى بشير الجميّل. وبينهما ناظم القادري وسمير قصير ووسام الحسن. هذا قبل أن يحطّ الهلال الإيراني رحاله في ربوعنا. لأنّه مذّاك صارت دمشق استعاضة عن العرب أجمعين.
حتّى الجُمام
لا يوجد مكان في العالم مثل دمشق. تلك العاصمة العتيقة التي عرفت من التجارب جميعها. واختبرت كلّ حضارة عرفتها البشرية منذ ألف سنة، بل منذ ستّة من أضعافها. دخلها البابليّ والأكديّ والسومريّ والفارسيّ والرومانيّ واليونانيّ والبيزنطيّ والإسلاميّ والصليبيّ. دخلوها جميعاً، وبقيت الشام لأهلها، عربيّة من عيون العرب الأقحاح، ولولا دمشق لما كانت طُليطلة، ولا زهت ببني العبّاس بغدان.
إقرأ أيضاً: اشتباك تركيّ – إسرائيليّ في سوريا؟
نقول ما نقول وفي خلفيّتنا الوطنية ثوابت راسخة وقاطعة ولا تتزحزح. لكنّ الشام لنا، نحن الثكالى والمكلومين على مدى نصف قرن، بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من انتصار مؤجّل، وثأر مستحقّ، وعاصفة من ذاكرة لا تنام. ونحسب أنّنا وأهل الشام في الضيم سواء، وقد كنّا كلّما أصابتنا سهامٌ، تكسرّت النصالُ على النصالِ.
دمشق لأهلها وناسها، من نازعهم ياقة قميصهم نازعوه حياته، ومتى ضاقت بهم، ألحقوا الدنيا ببستان هشام. ودمشق لنا أيضاً وللعرب أجمعين، وسنبقى نردّد على مسامعها عند كلّ استحقاق وكلّ منعطف: ظمأ الشرق فيا شام اسكبي، واملئي الكأس لنا حتّى الجُمام.
لمتابعة الكاتب على X: