خلافاً لعاصفة التهويل التي استبقت وصولها، حطّت مورغان أورتاغوس في بيروت وسط صمت مطبق، على نحو غير معتاد، أحاط زيارتها الثالثة. وهي وضعية كانت مُرتقبة في المقارّ الرسمية، ولم تكن مفاجئة، وكأنّها فصّلت على قياس ردّ مبرمج لصدّ الحملة التي تعرّض لها عهد الرئيس جوزف عون خلال الأيام الماضية، تحت عنوان أنّه مكبل بالضغوط الخارجية ورزنامة مواعيدها وبات أسير التناقضات الداخلية… فبدت جولة “السيدة مورغان” شكلاً ومضموناً، وكأنّها هبوط آمن للموقف الأميركي، لا ينسف الجوهر.
رسميّاً، أعلنت رئاسة الجمهورية أنّ اجتماع عون مع المبعوثة الأميركية “كان بنّاءً، وتمّ البحث بين الوفدين في عدد من الملفّات، أبرزها الوضع في الجنوب اللبناني، والحدود اللبنانية-السورية، والإصلاحات المالية والاقتصادية لمكافحة الفساد”. وأشارت إلى أنّه “كان قد سبق الاجتماع الموسّع خلوة بين رئيس الجمهورية والمبعوثة الأميركية”. وهي بذلك سعت إلى تطويق الهجوم الذي تعرّضت له رئاسة الجمهورية، وتقويضه، تحت عنوان أنّ الموفدة الأميركية ستستخدم عصاها هذه المرّة لإلزام لبنان بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل عبر مجموعات العمل بالتوازي مع مطالبته بوضع جدول زمني لنزع سلاح “الحزب”.
في الكلام غير الرسمي، تؤكّد مصادر معنيّة أنّ البيان الرئاسي عكس فحوى اللقاء مع أورتاغوس، لجهة التفاهم الكامل بين الجانبين اللبناني والأميركي، والحرص الأميركي على المصلحة والاستقرار في لبنان، وتأكيد بسط سلطة الدولة على كامل الحدود واستكمال الإصلاحات، كما تأكيد المساهمة في تسريع المساعدات لإعادة الإعمار.
تؤكّد مصادر معنيّة أنّ البيان الرئاسي عكس فحوى اللقاء مع أورتاغوس، لجهة التفاهم الكامل بين الجانبين اللبناني والأميركي
أكثر من وجهة نظر أميركيّة
وفق المصادر، ليست هذه الليونة في التعاطي مستغربة، ذلك لأنّ استقرار لبنان هو مصلحة أميركية، وأمّا الدفع باتّجاه تسعير الخلافات الداخلية وتزخيم الضغوط فقد لا يؤتي ثماره، بل يتسبّب بانفجار الوضع برمّته. وهو ما تتجنّبه واشنطن. وتذهب المصادر إلى حدّ الجزم أنّ المقاربة الأميركية للملفّ اللبناني لا تحكمها وجهة نظر واحدة، بل تتوزّع بين متشدّدين ومن هم أكثر ليونة وبراغماتية. وسلوك أورتاغوس دليل حسّي على ذلك.
لهذا كان الحرص على أن تكون لقاءاتها مع المسؤولين اللبنانيين من دون ضوضاء. هذا مع العلم أنّ من المرجّح أن تنهي زيارتها (مساء الأحد أو صبيحة يوم الإثنين) بتصريح إعلامي.
أمّا اللافت فهو تخصيص جزء من زيارتها لعقد لقاءات ذات طابع اقتصادي – ماليّ، تبدأ من حاكم مصرف لبنان الجديد كريم سعيد، وهذا ممّا يدلّ على أنّ للجانب الاقتصادي – المالي مساحة كبيرة من أجندة عملها.
إيجابيّة في السراي أيضاً
كما في بعبدا، كذلك في السراي الحكومي سادت أجواء إيجابية في اللقاء مع رئيس الحكومة نوّاف سلام، الذي تناول “ملفّات الإصلاح المالي والاقتصادي، وأثنت خلاله أورتاغوس على خطّة الحكومة الإصلاحية، ولا سيما الخطوات التي باشرت بها، خصوصاً رفع السرّية المصرفية، ومشروع قانون إصلاح القطاع المصرفي، وإطلاق آليّة جديدة للتعيينات في إدارات الدولة”.
في السياق ذاته، نفى المعنيّون أن تكون أورتاغوس قد تطرّقت في الاجتماع الموسّع إلى مسألة تشكيل اللجان أو المطالبة بجدول زمني لنزع سلاح “الحزب”، فيما أكّد رئيس الحكومة أنّ التفاوض يكون من خلال اللجنة التقنية العسكرية أو الدبلوماسية المكّوكية.
تبيّن الوقائع، كما تقول مصادر رسمية، أنّ هناك تفهّماً داخلياً جامعاً لكون لبنان دخل مداراً جديداً يواكب المقاربة الخارجية للملفّ اللبناني
فرصة غير مفتوحة
بعيداً عن المقار الرسمية، عُلم أنّ أورتاغوس أثارت مع مضيفيها مسائل السلاح، جنوب وشمال الليطاني، الحدود الجنوبية والشرقية، المعابر، والملفات الإصلاحية. تحدثت عن دعم غربي وعربي ينتظر لبنان بعد تنفيذ الإصلاحات المطلوبة منه وإتفاق وقف إطلاق النار. سألت عن آليات استعجال تطبيق القرار 1701 ومندرجاته، مشيرة إلى أنّ لبنان أمام فرصة استثنائية، لكنها اشتكت من بطء في حركة السلطة اللبنانية، وتأخير غير مفهوم في سلوكها، مؤكدة أنّ هذه الفرصة غير متاحة إلى ما لا نهاية، مشددة على ضرورة الإسراع في التنفيذ.
تضيف المعلومات أن أورتاغوس أفصحت عن إصرار بلادها عن تنفيذ مندرجات القرار الدولي والإتفاق المرفق به، وشددت على ضرورة الإسراع في وتيرة عمل السلطات الرسمية اللبنانية.
تؤكد المعلومات أنّ الموفدة الأميركية لم تتحدث عن مجموعات العمل التفاوضية لكنها تطرقت إلى مسألة التفاوض حول تثبيت الحدود البرية، كذلك لم تطالب بجدول زمني لنزع السلاح، مكتفية بالحديث عن مهل زمنية غير مفتوحة، واصفة الفرصة بالـWindow.
تؤكد المعلومات أنّ الموفدة الأميركية لم تتحدث عن مجموعات العمل التفاوضية لكنها تطرقت إلى مسألة التفاوض حول تثبيت الحدود البرية
ثلاثة تحدّيات ومسارات
في مطلق الأحوال، صار جليّاً أنّ السلطة اللبنانية تواجه ثلاثة تحدّيات، ضمن ثلاثة مسارات:
- الوضع الجنوبي الذي يرعاه اتّفاق وقف إطلاق النار الذي تواظب إسرائيل على خرقه، بموازاة مطالبة الإدارة الأميركية بتأليف مجموعات عمل تفاوضية لا يزال لبنان يرفضها.
- ملفّ الحدود الشرقية الذي تحرّك على وقع الاشتباكات النارية التي شهدتها المنطقة، وكان للمملكة السعودية دور جدّي في تقريب وجهات النظر بين الدولتين اللبنانية والسورية لمعالجة الملفّات العالقة.
- الملفّ الإصلاحي المتوارث من الحكومات المتعاقبة، الذي صار ممرّاً إلزامياً لوضع لبنان على سكّة النهوض الاقتصادي.
تبيّن الوقائع، كما تقول مصادر رسمية، أنّ هناك تفهّماً داخلياً جامعاً لكون لبنان دخل مداراً جديداً يواكب المقاربة الخارجية للملفّ اللبناني، وإن كانت النظرة غير متطابقة بين الداخل والخارج لكيفية المعالجة، إلّا أنّ هناك قناعة عامّة بأنّ عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء. وبالتفصيل، تُظهر المعطيات أنّه:
- في ما خصّ الوضع في الجنوب، تدرك السلطة اللبنانية أنّه لا بدّ من معالجة ملفّ السلاح، وهي متفاهمة بأركانها الثلاثة على ضرورة الانطلاق في هذا المسار. لكنّ هذا لا يعني أنّ لبنان سيلبّي الأجندة الخارجية على طريقة “سمعاً وطاعة”، لأنّ خصوصية التركيبة الداخلية تستدعي التعامل مع هذا الملفّ بكثير من الحذر والتروّي. ولذا لا بدّ من إنضاج الظروف الداخلية وتوفير أرضيّة للتفاهمات، قبل الإعلان رسمياً عن وضع هذا الملفّ على طاولة البحث. لكلّ ذلك، قد لا يلقى الكلام عن مطالبة دوليّة بجدول زمني محدّد إجاباتٍ سريعةً من جانب السلطة الرسمية.
المعلومات تفيد أنّ السعودية قد تطلق خلال المهلة الفاصلة بين عيدَي الفطر والأضحى إشارات إيجابية تجاه لبنان إذا ما التزم لبنان بالروزنامة الإصلاحية
جدول زمنيّ لمعالجة الملفّات مع سوريا
- في ما خصّ العلاقة مع سوريا، تعوّل السلطة اللبنانية على مبادرة السعودية إلى رعاية هذا الملفّ، من خلال المحضر المكتوب الذي تمّ تسطيره خلال الاجتماع المشترك الذي عُقد في جدّة في 28 آذار المنصرم، والذي يعكس حرص السعودية على استكمال الملفّ بخطوات عملانية تضعه على سكّة المعالجة السليمة. وعُلم أنّ الاتّفاق يتضمّن جدولاً زمنياً للخطوات الواجب اتّخاذها على طريق فكفكة الألغام في ملفّات ثلاثة: الحدود، التبادل التجاري والنازحين.
- في ما خصّ الملفّ الإصلاحي، صار جليّاً أن لا مفرّ من احترام الشروط المطلوبة من لبنان، ويفترض بدايةً وقبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في 21 نيسان الجاري، إقرار قانونَي إعادة هيكلة المصارف ورفع السرّية المصرفية (أو بالحدّ الأدنى إرسال الحكومة اقتراحَيهما إلى البرلمان)، وإعادة تشكيل إدارة مجلس الإنماء والإعمار.
إقرأ أيضاً: عصا أورتاغوس في بيروت: أقصى ما يعطيه عون وبرّي
كلّ ذلك في سبيل إعادة إطلاق عجلة المفاوضات مع صندوق النقد أوّلاً، ونيل قرض البنك الدولي البالغة قيمته 250 مليون دولار. حتّى مؤتمر الدعم، الذي وعدت باريس برعايته، لم يحدّد موعده بعد ربطاً بالشروط الإصلاحية الواجب تنفيذها قبل العمل على إقناع الدول المانحة المشاركة في أعمال المؤتمر.
يُذكر أنّ المعلومات تفيد أنّ السعودية قد تطلق خلال المهلة الفاصلة بين عيدَي الفطر والأضحى إشارات إيجابية تجاه لبنان إذا ما التزم لبنان بالروزنامة الإصلاحية والإجراءات الأمنية المطلوبة في المرفأ وطريق المطار، كالتوقيع على الاتّفاقات المشتركة أو رفع الحظر عن سفر الرعايا السعوديين إلى لبنان.
لمتابعة الكاتب على X: