إذا ما استثنينا المنابر الدائرة في فلك الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإنّ القامات الاقتصادية في العالم، وبخاصّة في الولايات المتحدة، بدت متشكّكة في الأهداف التي أُعلنت في “يوم التحرير” واحتمالات إنجازها. وإذا ما غادرت الولايات المتحدة نفسها مرحلة “الحمائيّة” التي كانت معتمدة في بدايات القرن الماضي، فذلك أنّ الازدهار والرخاء ورشاقة العملية الاقتصادية باتت تحتاج إلى مغادرة السوق المحلّي وجعل العالم سوقاً لا حدود لها، وإن تستمرّ السيطرة على شططها بمحدّدات.
بدت علوم الأرقام والحساب التي تقوم عليها النظريّات الاقتصادية خاضعة لأيديولوجية سياسية وأجندات انتخابية. يقدّم رئيس أكبر دولة في العالم، والأهمّ في مجالات عدّة، وفي مقدَّمها الاقتصاد، بلاده بصفتها كائناً ساذجاً تستغلّه كائنات العالم الأخرى وتستفيد من سماحته. ولئن تُباع تلك النظرة في أسواق الحملات الانتخابية حيث تزدهر ورش حصد أصوات العامّة قبل النخب، فإنّ في الأمر شعبويّة سوقيّة تثير لدى الدول المعنيّة بتعريفات ترامب الجمركية الجديدة مشاعر مختلطة من دهشة وسخرية واستياء.
يقوم النظام الاقتصادي العالمي، الذي بات ليبرالياً رأسمالياً صافياً وفق مدارس متعدّدة منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتّحاد السوفيتي، على قواعد قرّرتها، وحتّى فرضتها الولايات المتحدة. ولطالما جاءت قواعد التجارة العالمية مجحفة للكثيرين ولمصلحة الأقوياء والأثرياء من دول تقودها مؤسّسات المال والاقتصاد المستقرّة في واشنطن. ولئن تنامت دول، حتى تعملقت، على منوال الهند والصين ونماذج أخرى على أساس تلك القواعد، فإنّ “يوم التحرير” الأميركي الذي أعلنه ترامب يمثّل لحظة حسد وغيرة وانتقام بالمعنى السوقيّ البسيط.
العالم قد يستغني بشكل تدريجي عن واردات أميركا ويتّجه أكثر فأكثر إلى واردات الصين
التّوقّعات الاقتصاديّة أُصيبت بالعتمة والغموض
لم يكن صعباً استنتاج الأعراض الجانبية لـ”العلاج” الذي تفاخر الرئيس الأميركي بمباشرة حقنه في عروق الاقتصاد الأميركي العليل. تراجعت البورصات في العالم، بما في ذلك بورصة نيويورك. انخفضت أسعار النفط. انخفضت قيمة الدولار. وأصابت التوقّعات الاقتصادية عتمة وغموض حتى داخل الولايات المتحدة. صحيح أنّ ردّة فعل السوق على إجراءات تغيير قواعد اللعبة تكون عادةً سلبيّة متوتّرة، فما بالك إن كانت الإجراءات تاريخية منقلبة على بديهيّات السوق. وصحيح أنّ ترامب نفسه تحدّث عن أوجاع متوقّعة في الأجل القريب، إلّا أنّه لم يصدر عن مراجع الاقتصاد، حتى الأميركية منها، ما يوفّر بعضاً من يقين يتعلّق بذلك الأجل البعيد.
يبرع ترامب في مخاطبة كتلته الناخبة، لا سيما العمال والمزارعين وصغار رجال الأعمال “البيض”، بالمعنى السياسي للكلمة. يحدّثهم عن أنّ أميركا التي تهرع الاستثمارات الدولية الكبرى (ومنها عربية لافتة) إليها، والتي تملك أكبر اقتصادات الكوكب، ويستقرّ داخلها أكبر عدد من أصحاب الثروات المفرطة، وتقوم داخلها الشركات العملاقة العابرة للقارّات، ومنها شركات التكنولوجيا الكبرى التي تهيمن على طرق العيش الحديثة في العالم، هي دولة مفلسة بسبب ظلم الآخرين، لا سيما ذوي القربى. ولا أحد داخل حاشية رجل العقارات الكبير يجرؤ على اقتراح أن يكون لسوء توزيع الثروة في الولايات المتحدة نفسها، مثلاً، صلة بضيق محتمل تعانيه موارد البلاد.
قال مرجع اقتصادي في ألمانيا إنّ ما جرى ليس “أميركا أوّلاً”، بل “أميركا وحدها”
ترامب يبيع أميركا مقامرة
من دون الدخول في علوم الاقتصاد وتعقيداتها التقنيّة، فإنّ ترامب يبيع أميركا فكرة فيها مخاطرة وحتى مقامرة تشبه الأفكار التي سبق له تقديمها وقامر بها وتراجع عنها من دون أن يرمش له جفن. ولئن يكمل الرجل ممارسة السياسة وكأنّه في حملة انتخابات مستمرّة يجوز داخلها نثر الوعود ونشر المزاعم من دون رقيب ولا حسيب، فذلك أنّه فعلاً يُعدّ نفسه لولاية ثالثة لم يستبعد أن يخوض انتخاباتها فيما ينهمك خبراء الدستور في العثور على منافذ واجتهادات تتيح له ذلك. وإذا ما يذهب ترامب بعيداً في ورشته ويتحدّى العالم وقواعده، فذلك أنّه يعتبر أنّ أميركا مهمّة لهذا العالم إلى درجة الاضطرار إلى ملاقاته والخضوع له.
لم يستفِق العالم من جلبة الحدث. لكنّ العالم أخذ علماً وبات مضطرّاً إلى إعادة التموضع وفق نظام اقتصادي جديد. الاتّحاد الأوروبي غاضب، مستعدّ للتفاوض. لكنّه يُعدّ العدّة أيضاً لفرض ما يوجع صادرات أميركا إلى أوروبا. يلوّح الاتّحاد بضرائب وتعريفات عالية ضدّ عمالقة شركات التكنولوجيا التي تهافت رؤساؤها على تقديم طقوس الولاء لترامب. بدا أنّ إيلون ماسك، “الصديق المخلص” للرئيس، يتأمّل تراجع مبيعات سيّارات “تسلا” وتدهور قيمة شركته السوقية في العالم. وبدا أنّ الحرب ستكون موجعة للجميع وفق ما يكرّر الصينيون.
يبتسم خبراء الاقتصاد في أوروبا من تلاعب ترامب بمنطق الحساب، فيقدّم للعامّة معلومة تقول إنّ أوروبا تفرض تعريفات جمركية على الولايات المتحدة تصل إلى 39 في المئة. يقرّ ترامب نفسه بأنّه تلاعب بالحسابات ويجد للأمر مبرّراً. لكنّ ترامب في معرض توزيع التعريفات على بلدان العالم، وهو توزيع فيه من السياسة أكثر من الاقتصاد، يعلمنا بأنّ سوريا تفرض تعريفة “ظالمة” على بلاده بنسبة 81 في المئة. ولا يجد السوريون هذه الأيّام وقتاً للاندهاش، لكن لا يضيرهم حضور بلدهم من جديد على لوائح الإدارة في واشنطن.
في الصين من يبتسم على الرغم من محاضرات الغضب التي تخطّها بيانات الوزارات المختصّة في بكين. العالم قد يستغني بشكل تدريجي عن واردات أميركا
عصر الصّين يبزغ من “يوم التّحرير”
في الصين من يبتسم على الرغم من محاضرات الغضب التي تخطّها بيانات الوزارات المختصّة في بكين. العالم قد يستغني بشكل تدريجي عن واردات أميركا ويتّجه أكثر فأكثر إلى واردات الصين. أوروبا، التي تعاني من عداء روسيا وحرد أميركا، تستنتج أنّ قسماً كبيراً من صادرات الصين إلى السوق الأميركي ستتّجه إلى السوق الأوروبي لتزيد من الضغوط على أوروبا. وستجد بكين في القارّة العجوز “الجريحة” مكاناً ومكانة لتوسيع حضورها وربّما التمكّن من التأثير على قرارها في الاقتصاد طبعاً، لكن في السياسة أيضاً.
إقرأ أيضاً: إيران تكره نموذج ليبيا وتخشى لعنته
قال مرجع اقتصادي في ألمانيا إنّ ما جرى ليس “أميركا أوّلاً”، بل “أميركا وحدها”. فيما تهكّم آخر في فرنسا ورأى أنّ ما جرى ليس “إنّه الاقتصاد يا غبيّ”، وهي العبارة الشهيرة للاستراتيجي الأميركي جيمس كارفيل، بل هو عصر الصين الذي يبزغ في “يوم التحرير” في واشنطن.
لمتابعة الكاتب على X: