جاء رد الفعل الأميركي سريعاً وملتبساً على تعيين كريم سعيد حاكماً لمصرف لبنان، بدعم مطلق من رئيس الجمهورية.
لم يتضمّن تعليق البيت الأبيض أي ترحيب أو حتى تلميح بالتقدير للحاكم المعيّن، محملاً الحكومة مسؤولية ما تفعله، والنأي عن التدخل في السياسات الداخلية للدولة اللبنانية.
ولكن هذا لم يمنع المبعوثة الاميركية مورغن اورتاغس من إرسال رسالة نصية لسعيد بعد تعيينه، قالت له فيها انها ستلتقي به قريباً.
أكمل البيان بتأجيل الحكم على أداء محافظ مصرف لبنان الجديد، من خلال قدرته على إجراء الإصلاحات. هذا النص يعني في السياسة أنّه على المسؤولين اللبنانيين تحمّل مسؤولية خيار تعيين كريم سعد، وأولهم بالطبع رئيس الجمهورية.
هذا أوّلاً، أما ثانياً، إن الجميع أمام امتحان، وأنه قبل ظهور النتائج، لا مساعدات عربية، وبالطبع لا تحرّك دبلوماسي أميركي لحث دول الخليج على تقديم مساعدات للبنان، وللجنوب خاصة.
حكاية التعيين بدأت في لقاء بين مسؤول لبناني معني والسفيرة الأميركية، التي رفضت في بداية الحديث الدخول في لائحة الأسماء المرشحة للحاكمية، إلى أن ألحّ عليها المسؤول بأنّه يريد أن يسمع التسمية “of the record“، فضحكت ونطقت باسم جهاد أزعور. إلاّ أنها امتنعت لاحقاً عن طلب موعد من رئيس الجمهورية تفادياً للمواجهة بين “عناد” الرئيس والأجندة الأميركية.
لذلك كلّه أصر وزير المالية ياسين جابر على طرح ثلاثة أسماء من المرشحين ومنهم كريم سعيد، رغم محاولة الرئيس عون حثّه على طرح اسم واحد أي مرشحه. انتقل النقاش لاحقاً إلى عواصم الدول المعنية، فتعدّدت الأسماء، ومنها ما كان متقدّماً كجهاد أزعور وسمير عساف وكميل أبو سليمان وعصام أبو سليمان وكريم سعيد.
اختلفت القوى الدولية حول الأسماء المطروحة، فكان اسم سمير عسّاف متقدّماً في باريس، واسم جهاد أزعور متقدّماً في المملكة العربية السعودية. أمّا في واشنطن فكانت اللائحة المتقدّمة مؤلّفة من ثلاثة أسماء، هم جهاد أزعور سمير عساف وفراس أبي ناصيف. أمّا كريم سعيد فسجّلت عليه مجموعة ملاحظات من صندوق النقد والدائرة الضيّقة المعنيّة بلبنان في واشنطن.
فور نشر الخبر، عمل الفريق الداعم لسعيد على محاولة تذليل العقبات وتوضيح موقف سعيد من خطّته الإنقاذية، بالإضافة إلى سعي لوبي لبناني متقدّم في واشنطن يقوده المصرفي انطوان الصحناوي لمصلحة سعيد.
ما هي إلّا أيّام حتّى عاد اسم كريم سعيد وتقدّم في السباق، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية جوزف عون تمسّك به منذ اليوم الأوّل، وخاض من أجله معارك لإقناع الخارج والداخل بأحقّية وصوله إلى رئاسة الحاكمية.
قبل الجلسة بساعات، كانت المواجهة الأخيرة التي خاضها الرئيس عون مع الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، الذي زاره في بعبدا متحدّثاً عن ضرورة اختيار شخصية ملتزمة بصندوق النقد. كان اللقاء سيّئاً ولم يتوافق الرجلان، وتمسّك عون بسعيد خياراً وحيداً للحاكمية.
الرّواية الكاملة
أربع وعشرون ساعة مصرفيّة عصيبة سبقت وصول كريم سعيد إلى رئاسة المصرف المركزي. فما هي رواية الساعات الأخيرة قبل التعيين؟
منذ مساء الأربعاء، تواصلت المساعي لمحاولة إقناع رئيس الجمهورية بتأجيل بتّ بند تعيين حاكم مصرف لبنان في جلسة مجلس الوزراء، وخرجت بعض الأجواء تتحدّث عن استقالة رئيس الحكومة نوّاف سلام في حال وصل الأمر إلى التحدّي، على اعتبار أنّ سلام يعارض وصول كريم سعيد إلى الحاكمية. ولكنّ مصادر مقرّبة من سلام نفت نيّته الاستقالة.
لم يتضمّن تعليق البيت الأبيض أي ترحيب أو حتى تلميح بالتقدير للحاكم المعيّن، محملاً الحكومة مسؤولية ما تفعله
استُكملت هذه المحاولات صباح الخميس بزيارة قام بها رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل لبعبدا في محاولة لإقناع الرئيس عون بالتأجيل، إفساحاً في المجال لمزيد من النقاش والتشاور وعدم الذهاب إلى التصويت، لما لهذا الموقع من أهمّية جامعة.
في معلومات “أساس” أنّ الرئيس عون رفض تأجيل البند، قائلاً إنّه يريد أن يتمّ تعيين كريم سعيد بالتوافق، وسيسعى إلى إقناع رئيس الحكومة، وفي حال عدم اقتناعه فلا مانع لديه من الذهاب إلى التصويت.
من جهتهما، كانت كتلتا الكتائب والقوات تريدان تجنّب التصويت وتفضّلان الوصول إلى إجماع، أوّلاً لأنّ تصويتهما سيحمّلهما مسؤولية أداء الحاكمية لاحقاً، ومن جهة أخرى لا يريدان مواجهة مع رئيس الجمهورية.
كتلة اللقاء الديمقراطي وجنبلاط الأب والابن عبروا للرئيس عون عن تفضيلها التعيين بالإجماع من دون تصويت.
إلّا أنّ الرياح جرت بما لا تشتهيه القوى المختلفة، بعدما أصرّ رئيس الجمهورية على إنجاز التعيين، واجتمع مع سلام في لقاء وُصفت أجواؤه بالمتشنّجة، بسبب تمسّك كلّ من الرئيسين بموقفه.
جلسة مساءلة
في المعلومات أنّ الجلسة شهدت توتّراً، الأمر الذي دفع رئيس الجمهورية إلى استدعاء كريم سعيد إلى قصر بعبدا للاستماع إليه حول مجموعة من العناوين الإشكالية. وفي تلك الجلسة، بحسب معلومات “أساس”، أوضح موقفه ممّا نُسب إليه من محتوى خطّة هارفرد، فقال إنّ المحتوى أكاديمي وجامعة هارفرد لا تقبل أن يتدخّل أحد في محتواها الأكاديمي. وسئل أيضاً عن علاقته بالمصرفي أنطون الصحناوي، فأجاب أنّه التقى به مرّة أو اثنتين فقط.
وفقاً لمصادر وزارية، خضع سعيد لجلسة أشبه بالمساءلة، وأجاب في خمس وأربعين دقيقة على أسئلة الوزراء، فأكّد أنّه مصرفيّ ولن يكون طرفاً مع المصارف أو مع أيّ جهة أخرى، ويعتقد أنّ المسؤولية مشتركة. والتزم أن يعمل على استعادة حقوق المودعين وفق جدول زمني محدّد. لكنّه لم يعطِ التزاماً دقيقاً بشروط صندوق النقد.
وصفت المصادر سعيد بأنّه يتمتّع بشخصيّة مقنعة، وأنّ لديه سعة اطّلاع على القوانين المصرفية. ولدى سؤال المصادر: هل اقتنع الرئيس سلام بأجوبة الحاكم الجديد؟ ردّت: “لا”.
بعد مغادرة سعيد، استمرّ رفض فريق رئيس الحكومة، الأمر الذي استدعى اللجوء إلى الخيار الأخير، وهو التصويت. فحصل سعيد على 17 صوتاً، وتحفّظ 7 أصوات، فكان ما حصل حدثاً يشهده لبنان للمرّة الأولى منذ اتّفاق الطائف، ولو لم يصوّت وزير الداخلية أحمد الحجّار لمصلحة سعيد، لكان خسر كلّ الأصوات السنّية، ولكان الثلث المعطّل، أي ثمانية من الوزراء، قد قضى على إمكانية تعيين سعيد.
مصادر وزارية: خضع سعيد لجلسة أشبه بالمساءلة، وأجاب في خمس وأربعين دقيقة على أسئلة الوزراء، فأكّد أنّه مصرفيّ ولن يكون طرفاً مع المصارف
كلمة عالية السّقف
لم يكتمل المشهد قبل أن يتوجّه رئيس الحكومة بكلمة إلى اللبنانيين، ذكر فيها سبب معارضته لسعيد، محدّداً له أنّ وظيفة الحاكم هي الامتثال لسياسات الحكومة، وهو ما وجدت فيه مصادر وزارية “كلمة عالية السقف” قد تكون مقدّمة لاشتباك سياسي مقبل حول الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد.
وممّا جاء في كلام سلام: “من المعروف أنّ السيّد سعيد لم يكن مرشّحي لعدد من الأسباب، في ظلّ حرصي على حماية حقوق المودعين والحفاظ على أصول الدولة”. وأضاف: “تحفّظت مع عدد من الوزراء على تعيينه. يبقى الأهمّ، وهو أنّ الحاكم، أيّاً كان، ومهما كانت تحفّظاتنا على اختياره، عليه أن يلتزم منذ اليوم السياسة الماليّة لحكومتنا الإصلاحيّة، كما عبّر عنها البيان الوزاري، لجهة التفاوض على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي وإعادة هيكلة المصارف، ووضع خطّة متكاملة وفق أفضل المعايير الدولية للحفاظ على حقوق المودعين”.
وتابع: “كنت قد أكّدت في كلمتي باسم الحكومة في الردّ على السادة النوّاب في جلسة الثقة، أنّ حكومتنا عليها أن تنظر بسرعة في إلغاء السرّية المصرفية. لذلك وافقت الحكومة اليوم على مشروع قانون يرمي إلى تعديل القانون المتعلّق بسرّيّة المصارف. هذه سياستنا وعلى الحاكم التزامها. واللبنانيون طالبونا بالإصلاح، وإنّنا على الإصلاح مصرّون”.
إقرأ أيضاً: سلام يستعيد ديمقراطية التصويت.. كريم سعيد حاكماً
الأيّام بيننا
مصادر دبلوماسية قالت لـ”أساس” إنّ مواقف الخماسية الدولية لم تجمع بداية على اسم كريم سعيد، خصوصاً بعدما كان اجتماع رئيس الجمهورية بالموفد الفرنسي جان إيف لودريان سيّئاً، ولم يتمّ التوصّل فيه إلى نقاط مشتركة.
قال رئيس الجمهورية لفرانس 24 إنّ ما سمعه من الفرنسيين واضح لجهة أنّ انعقاد مؤتمر الدعم لإعادة إعمار لبنان مرتبط بتطبيق لبنان الإصلاحات الاقتصادية وتوقيع اتّفاق مع صندوق النقد.
هكذا يكون عون تخطّى في الساعات الماضية كلّ هذه الإشكاليّات بإصراره على تحمّل المسؤولية أمام المجتمع الدولي عن اختيار حاكم للمصرف المركزي لتنفيذ خطّة الإنقاذ المالي، وأكّد التزامه مسار الإصلاح أمام هذا المجتمع.
وما على الوقائع إلّا أن تثبت صوابيّة الخيار من عدمه.
لمتابعة الكاتب على X: