إذا لم يذهب الطرفان المتصارعان في تركيا نحو التهدئة وتجنّب المزيد من التصعيد والتوتير، فارتدادات ما يجري لن تبقى محصورة في النقاشات السياسية والقضائية والإعلامية، خصوصاً أنّ حزب الشعب الجمهوري وداعميه يصرّون على لعب ورقة النزول إلى الشارع والاعتصامات والمقاطعة. الخروج من جنّة العمل السياسي والحزبيّ في شحن متواصل بين الأطراف، ولا أحد يريد التخلّي عن عناده والتراجع أو التنازل للطرف الآخر.
استخفّ رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو وقادة حزب “الشعب الجمهوري” بتحذيرات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في 17 كانون الثاني المنصرم، حين ذكّرهم بالمثل الشعبي التركي المصحوب بالإنذارات والتحذيرات وأنّ الآتي أعظم: “حبّات الفجل الكبيرة تحت العباءة”، وهي في الطريق، وكرسي الرئاسة في “سراجهانه”، موقع بلديّة إسطنبول، يهتزّ من تحتكم بسبب أفعالكم. فردّ رئيس الحزب المعارض أوزغور أوزال أنّ “حبّة الفجل الكبيرة هي صناديق الانتخاب، وإذا لم تكن خائفاً فتفضّل”، فوجد أكرم إمام أوغلو رئيس بلديّة إسطنبول نفسه أوّل من يدفع الثمن وهو يُقتاد إلى سجن “سيليفري”، حيث كان ينتظره العشرات من السجناء القدماء من حزبيّين ومفكّرين ورجال أعمال معارضين، يتقدّمهم النائب جان أتالاي وطيفون قهرمان وعثمان كاوالا وأحمد أوزار، إلى جانب أوميت أوزداغ، رئيس حزب ظفر اليمينيّ المتشدّد، والمعارض الأوّل لسياسة حزب العدالة في ملفّ اللجوء الأجنبي إلى تركيا.
تذهب المؤشّرات كلّها إلى أنّ الأجهزة الأمنيّة والادّعاء العامّ التركي لن يكتفيا بما جرى حتى الآن، وهو سجن العشرات من فريق عمل إمام أوغلو بتهم الفساد والرشى والتنسيق مع مجموعات إرهابية، بل هناك الكثير من المفاجآت ستظهر إلى العلن في ضوء التحقيقات والمعلومات والأدلّة التي يتمّ الوصول إليها، وستطال ساحة المداهمة والتوقيف بلديّات عدّة محسوبة على حزب الشعب الجمهوري خارج مدينة إسطنبول.
استخفّ رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو وقادة حزب “الشعب الجمهوري” بتحذيرات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في 17 كانون الثاني المنصرم
توسيع رقعة المواجهة
تنتظر ملفّات ساخنة تفاعلات النقاش السياسي والعدليّ والحزبي في الداخل التركي، بينها:
– بينما يستند “حزب العدالة والتنمية” إلى تقديم كلمة القضاء وإبرازها في مواقفه، يشدّد قادة “حزب الشعب الجمهوري” على تحريك أدوات الضغط السياسي والإعلامي والشعبي وتبنّي نظريّة المؤامرة ضدّه، دون الوصول إلى نقطة التقاء تقرّب مواقف الطرفين.
لن يتبدّل المشهد المتفاعل في الساحة التركية، بل سيتّسع الشرخ وتتفاقم ارتداداته.
– تحمل خطوة قرار “حزب الشعب الجمهوري” بالذهاب إلى مؤتمر استثنائي يهدف لإعادة انتخاب أوزغور أوزال في السادس من نيسان المقبل بعد التشكُّك في انتخابه قبل أشهر في مواجهة كمال كيليشدار أوغلو، تحمل الكثير من النقاشات القانونية والسياسية أيضاً. هل يكون لأوزال ما يريد؟ أم مفاجأة آخر لحظة هي التي ستظهر إلى العلن؟
– يحاول حزب الشعب توسيع رقعة المواجهة وإضافة عناصر جديدة إليها مثل الدعوة إلى مقاطعة بعض العلامات التجارية والسلع والقنوات التلفزيونية، مستقوياً بدعم 15 مليون صوت لترشيح إمام أوغلو لمعركة الرئاسة. بالمقابل هناك تحرّك عدليّ من قبل بعض الشركات، بناء على موادّ قانون التجارة التركية، لمقاضاة أوزغور أوزال على مواقفه. هل يردّ “العدالة والتنمية” عليه بالأسلوب نفسه ويزيد من حجم الاصطفاف والتوتّر؟ أم يترك حزب الشعب في مواجهة قواعده وجماهيره ويحمّله مسؤولية المزيد من التوتير والانسداد؟
تذهب المؤشّرات كلّها إلى أنّ الأجهزة الأمنيّة والادّعاء العامّ التركي لن يكتفيا بما جرى حتى الآن، وهو سجن العشرات من فريق عمل إمام أوغلو
– كيف ستتعامل مع هذا التصعيد بقيّةُ الأحزاب، وتحديداً “حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب”، حليف حزب الشعب في الانتخابات الأخيرة من جهة، وشريك حزب العدالة في نقاشات الانفتاح في الملفّ الكردي من ناحية ثانية؟ على الحزب المدعوم بالصوت الكردي التضحية بشراكته مع أحد الجناحين، فلمن ستميل الكفّة؟
– نجحت أنقرة في تسريع الانفتاح على أوروبا وأميركا في الأسابيع الأخيرة نتيجة خطواتها الإقليمية التي أبعدتها عن إيران، وتفاعلها مع الحلحلة في الأزمة الأوكرانية على خطّ موسكو – كييف. هل تبقى العواصم الغربية على موقفها الحيادي الحالي في التعامل مع ما يجري في الداخل التركي؟ أم تبدّل ما تقوله بحسب تطوّرات المشهد السياسي وتفاعلاته؟
50 مليار دولار خرجت من الأسواق
يردّد وزير المالية محمد شيمشاك أنّ الأزمة الحالية لن تكون لها ارتدادات في العمق، بل بعض الأضرار الظرفية المؤقّتة. لكنّ الكثير من التحليلات المغايرة تقول إنّ التوتّر الحاصل قاد بشكل سريع إلى هبوط البورصة وتدخّل المصرف المركزي التركي لوقف تراجع قيمة الليرة التركية، وانسحاب الكثير من المستثمرين الأجانب من الأسواق المالية التركية بأضرار وصلت إلى ما قيمته حوالي 50 مليار دولار خلال أقلّ من أسبوع، والحبل على الجرّار.
تقول الأقلام المقرّبة من الحكم إنّ التهديد بلعب ورقة الشارع والمقاطعة هو سيف ذو حدّين، وإذا ما نجح الادّعاء العامّ التركي في إقناع القضاة بنسبة عشرة في المئة فقط ممّا ورد في ملفّ الدعوى من تهم، فقد يكفي ذلك لسجن إمام أوغلو لسنوات طويلة. واضح تماماً أنّ ارتدادات حبّة الفجل المخبّأة تحت العباءة لن تطال أيضاً أوزغور أوزال الطامح السياسي والحزبي وحده، بل و”حزب الشعب الجمهوري” الصاعد في العامين الأخيرين، الذي يسعى إلى إزاحة إردوغان عن مقعده في انتخابات تركيّة مبكرة قد لا يكون لها خيار بديل.
إقرأ أيضاً: “أكرم إسطنبول” رواية تنتظر كاتبها!
يقول زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزال: “لن نتوقّف قبل أن نستردّ أكرم إمام أوغلو”. يريدها مواجهة سياسية، متجاهلاً الشقّ القضائي والعدليّ فيها. “العشق الممنوع” هذه المرّة ليس بين أكرم إمام أوغلو وبين منصبه في رئاسة بلديّة إسطنبول، بل بينه وبين كرسي الرئاسة في أنقرة، بكلّ ما سيحمله من ارتدادات في صفوف المعارضة التركية.
لمتابعة الكاتب على X: